مذكرات ثائر لم يشارك في الثورة (1-5)

وليد علاء الدين الإثنين 25-01-2016 22:49

للذين يعيشون خارج مصر فرصة في متابعة ما يجري على أرضها من على بعد خطوات تسمح لهم برؤيةٍ أهدأ وتفكيرٍ أشمل وبعض تفلسف ممن ينطبق عليهم المثل "اللي ايده في المايه مش زي اللي ايده في النار".

لكنهم في الوقت ذاته – أي المغتربين- محرومون من صنع ذكريات في أوطانهم أو المشاركة في أحداثه الكبرى.

شخصيًا أعتبر نفسي محظوظًا، إذ وفرتْ لي الأقدارُ كثيرًا فرصة الوجود في اللحظات المفصلية من تاريخ الوطن لتكون لي معها قصة تُروى أو ذكريات تٌسجّل، والأهم من هذه وتلك أن أكون قادرًا عن الحديث حول الآشياء حديثَ المعاين لا حديث المتابع عن بعد. وهو ما حدث معي في ثورة الخامس والعشرين من يناير، فأنا – بلا فخر- الثائر الذي لم يشارك في الثورة.

في الخامس والعشرين من يناير سنة 2011 كنت في قطار الديزل المتجه من الأسكندرية إلى القاهرة استعدادًا لاختبارات الماجستير التي حصلت لأجلها على إجازة من عملي في الخارج. وعلى عكس عادتي السنوية في الإقامة في فندق بمنطقة الدقي، كنت قد قبلت دعوة صديق يزاملني في الماجستير يقيم في منطقة الهرم لأقيم معه هناك خلال فترة الامتحانات.

طلب مني أخي الصغير أن أنتبه خلال سفري لأن اليوم هو الخامس والعشرين من يناير! في الحقيقة لم أكن أعرف عن الأمر شيئًا، ولم أكن قد سمعت عن دعوات الشباب للتظاهر في هذا اليوم، ولم يكن من ضمن معارفي العامة –حتى- أن الشرطة المصرية تحتفل بعيدها السنوي في هذا التاريخ، فما لنا ومال عيد الشرطة أصلًا! ببساطة مخلة، كنت قد رحلت عن مصر قبل أكثر من أربعة عشر سنة غاضبًا ناقمًا نتيجة ما اختبرته بنفسي من ترهل إداري وفساد في الفرص ومحسوبيات في شبكة العلاقات في الوسط الصحفي الذي عملت فيه خلال السنوات الأخيرة من دراستي وبعد تخرجي لفترة قصيرة اكتشفت خلالها أنه ليس الوسط الذي يمكن للمجتهد فيه أن يجد نصيبه معتمدًا فقط على موهبته ومهاراته من دون أن يتخلى عن الكثير من اعتزازه بذاته وقيمه ومبادئه، فقررت الهروب حاملًا في قلبي غصة تشبه غصة الغاضب من أمه؛ لا هو بقادرٍ على نسيانها ولا طاقة له على التخلي عنها، فيحفظ في قلبه آخر صورة من صورها قربًا إلى روحه ويمضي في حياته ساهيًا يحاول أن يتجنب كل ما من شأنه تغيير تلك الصورة أو المساس بها.

كان هذا حالي وقتها، فلم أمنح كلمات أخي أهمية كبيرة، وإن كنت قادرًا على أن ألمح بعيني تراكمَ تغيرات أصابت المجتمع والشارع المصريين تُنذر بانفجار وصفتُه في زيارتي السابقة قبل هذا التاريخ بستة أشهر للصديق أحمد محجوب ونحن جلوس على مقهى بميدان الدقي بكلمات ذكّرني هو بها بعد ذلك، قلت له وأنا أدقق النظر في كوب الشاي المتسخ الذي وضعه القهوجي بإهمال بأصابع متسخة على طاولة خشبية شديدة الاتساخ: "لقد فقد المصريون احساسهم بالنظافة وقيم الجمال والأخلاق. . ." وأضفت: "إنه أمر يشبه نهايات عصور الانحطاط، ويُنذر بشئ تعرفه النهايات"، وعندما أبدى محجوب عجبه من تلك الكلمات، أكدتُ له أن عين البعيد ترى طبقات التغيير التي لا يراها المقيم القريب لأن تراكمها البطيء الهادئ يجعلها غير منظورة ويُدخلها في نطاق الاعتياد، فقال: "لا أظن أن هذا الشعب سيتحرك"، فقلت: "هذا الشعب مُلقى على بطنه في صندوق قمامة السادة الذين يدوسون رؤوسه بأحذيتهم، لكنه – أي الشعب- طالما وجد بقايا أطعمة تحته فهو منشغل بها باحث عنها أو منتظر لها، الآن الرؤوس بلغت القاع ولا شئء فيه سوى "الخراء"، والمنتَظر أن تنتفض هذه الرؤوس ليس استردادًا للكرامة ولكن لأن الانتفاض يحمل احتمال النجاة إلى جوار الموت، بينما البقاء لا يحمل سوى احتمال الموت موتًا بالخراء، فهي "قُومه بموته".

بينما كان أخي الأصغر يحذرني من أحداث الخامس والعشرين من يناير، لم يكن في بالي أن هذه هي بداية "القومه بموته"، ولكنها كانت كذلك.

في مدخل القاهرة وقبيل الوصول إلى باب الحديد، استغرق القطار فترة أطول بكثير من المعتاد، طالت فترة زحفه الممل نحو المحطة وتكرر وقوفه، وبدأت همهمات الركاب وتعليقاتهم، وانتقلت بين العربات إشاعات تقول إن مدخل المحطة مقفول بسبب المظاهرات، وتبادل الركاب وجهات النظر حول الدعوات للتظاهر التي كان كثيرون قد سمعوا بها، وآخرون ليس لديهم فكرة عنها، إلا أن سقف توقعات أغلب الركاب لم تتجاوز الصورة الذهنية عن التظاهرات؛ بعض الشغب سرعان ما تسيطر عليه قوات الأمن المركزي وتحتويه، و"هيلمولهم كم عيل وينفض المولد".

أحد الركاب كان حريصًا على أن يردد في أعقاب كل وجهة نظر يطرحها أحدهم: "بس المرّه دي شكلها حاجه تانيه" ولكنه لم يتمكن ولو لمرة واحدة من إضافة مبرر لقناعته تلك، فكانت سرعان ما تضيع وسط أصوات السيدات التي ترتفع طالبة من الله أن "يجمّلها" بالستر، فـ"الحياة مش ناقصة" و"الناس مش مستحمله".

عندما وصل القطار، كانت محطة باب الحديد شبه خالية، لم يكن الوقت متأخرًا كثيرًا، ولكن المحطة كانت توحي بذلك، لا أحد يعرض عليك توصيلة كالمعتاد: "تاكسي يا بيه، تاكسي يا كابتن"، كنت في المرات السابقة اعتدت أن أجر حقيبتي إلى محطة مترو الأنفاق لأستقل القطار المتوجه صوب الدقي حيث الفندق الذي اعتدت السكن فيه خلال فترات الامتحانات، لكن وجهتي هذه المرة كانت الهرم، ولما لم أجد "تاكسي" قلت فلأذهب إلى الدقي ومن هناك أستقل سيارة أجرة، ولكنني اكتشفت أن بوابة المترو مغلقة، فعدت أدراجي لأجد إحدى السيدات التي كانت بعربة القطار نفسها تقف محتارة في انتظار تاكسي، اطمأنت قليلًا لظهوري، كانت ترغب في الذهاب إلى عين شمس، وحدثتني أنها طلبت من أقاربها عدم انتظارها لما تأخر القطار، وأنهم في انتظارها هناك، قالت إنها للتو تحدثت معهم وأخبرتهم بعدم وجود تاكسي واتفقا أن تحاول مرة أخرى قبل أن يرسلوا لها أحدًا لأن "البلد ماتطمنش" و"سكة عين شمس أحسن من سكة البلد".

لم تكن مُسنّة ولكنها كانت تحمل حقيبة وكرتونة تجعلان حركتها صعبة، خلال حديثنا ظهر رجل وسألنا إن كنا نريد تاكسي، كان غريبًا في ظهوره المفاجئ والهادئ، قلت له إن السيدة تريد الذهاب إلى عين شمس، فسأل إن كنا معًا! فازداد ارتيابي، قلت للسيدة: اتصلي بالأشخاص الذين سوف تذهبين إليهم ليشرحوا للأسطى العنوان، وعندما أرادت أن توضح لنا أنها تعرف العنوان جيدًا، غمزتها وقلت لها: "مش قلتي لي يا حاجه إنك متلخبطة بين عين شمس وحته تانيه، كلميهم وادي التليفون للأسطى".

بالطبع كانت محاولتي لتأمين السيدة مفضوحة إلى حد أنها جعلت السائق يضحك حتى انتهت ضحكته بشخره عميقة بدت عفوية للغاية وكشفت عن طيبة في ملامحه أخفاها عنا القلق، قال الرجل: "اديني الرقم يا حاجه وأنا أكلمهم"، ثم طلب مني أن أسجل رقمه على هاتفي و"أعمل له رنه"، وعندما فعلت قال: "أخوك حسين، والحاجه زي أمي".

تحركت مع الحاجّه وحسين الذي أوضح لي أن الكثير من سيارات الأجرة تقف بالخارج، لأنهم لم يسمحوا لهم اليوم بدخول المحطة، "عشان اللبش اللي في البلد". سحبت حقيبتي خلفي وحملت حقيبة الحاجة بينما حمل حسين الكرتونة وخرجنا ثلاثتنا إلى حيث تنتظر عدة سيارات تاكسي، كان نصيبي أن أستقل واحدة منها، وعلى الفور قال السائق الذي بدا لي صبورًا للغاية عندما أخبرته بوجهتي: "عبد المنعم رياض كان مقفول من ساعة، بس عشان ما نلفش كتير هنجرب واحنا ونصيبنا".

كنت مرهقًا للغاية وأرغب في الوصول بأي شكل حتى أجد بعض الوقت لمراجعة المادة التي سوف أختبر فيها صباح الغد، فلم أجادل. مضت السيارة في الطريق بينما انسقت وراء فضولي ورحت أستجوب السائق الذي كان بوابتي الأولى لمعرفة أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير.

waleedalaa@hotmail.com