أحمد عبدالحسين يكتب: ٢٥ فبراير ٢٠١١.. حين صرخت بغداد ضد الطائفين واللصوص

كتب: اخبار الإثنين 25-01-2016 21:39

حين عدتُ إلى بلدي العراق سنة 2005 قادماً من كندا، بعد اغتراب ما يقرب من عشرين سنة، لم يَدُر في خلدي اني سأضطرّ إلى الوقوف مرة أخرى معارضاً للنظام، لكنّي فوجئتُ بأنّ العراق الذي تركته وأنا صبيّ هارباً من نظام حكم فرديّ لا مثيل لبطشه، قد تحوّل باتجاه ديكتاتوريّة من نوع آخر. أيام قليلة كانت كافية لأدرك اننا انتقلنا من ديكتاتورية الفرد والعائلة إلى ديكتاتورية العقيدة المسلحة بالمال.

كان العراق مختنقاً لفرط حريته، حرية كانت هي الاسم الآخر للفوضى التي أراد لها الأميركان المحتلون أن تكون "فوضى خلاقة"، غير انها لم تخلق في الحقيقة سوى أسباب كراهيات مجتمعية كانت كامنة ومستترة تحت تهديد العصا الغليظة لصدام ورهط حكمه.

كنا ـ نحن الحالمين بدولة مدنية علمانية ـ أشبه بالأيتام على مائدة اللئام. وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه إزاء امبراطوريات عقائدية كوّنتها الأحزاب الإسلامية، الشيعية منها والسنية على السواء، كيانات أخطبوطية متسلحة بأموال البترول المهولة التي كانتْ ـ ولا زالتْ ـ تُنهب علانيةً أمام مرأى ومسمع واستنكار وسخط الشعب المغلوب على أمره.

إنّ أنسب وصف يمكن أن يطلق على الحكم الذي شهده العراق منذ 2003 وحتى اليوم هو الحكم الكليبتوقراطي.

والكليبتوقراطية تعني (حكم اللصوص) وهي كلمة يونيانية مركبة من مقطعين أولهما «كلبتو» بمعنى لص، وثانيهما «قراط» بمعنى حُكم.

غير ان هؤلاء "الكليبتروقراطيين" الإسلاميين وجدوا في الطائفية وترسيخها في المجتمع رافعة من شأنها إيصالهم للحكم.

فلم يلبثوا أن أشاعوا الطائفية ورسخوها من أجل أن تكون الرافعة التي توصلهم للحكم وتبقيهم فيه. وكان واضحاً ان هذا الجشع غير المسبوق والسرقات الرهيبة التي يقوم بها الإسلاميون والإيغال في تكريس الخطاب الطائفيّ سيفضب لا محالة إلى انقسام مجتمعيّ وحرب أهلية. وهكذا كان للأسف.

حين وصل السيد نوري المالكي لرئاسة الوزراء، وضع الدولة كلها بمقدّراتها في يد حزبه وأفراد عائلته المقريبن، تركها نهباً للصوص نهمين لا يشبعون، وبحلول سنة 2011 كان قد مضى على حكم المالكي خمس سنوات عجافٍ ملأى بانشقاقات مجتمعية ووضع أمنيّ هشّ وشرعنة للفساد لم يسبق أن قرأنا عن مثيل لها.

كان الطائفيون يتقاتلون فيما بينهم، طائفيو السنّة المجروحون بغياب الحكم وجدوا في القاعدة ملاذاً لهم، بسياراتهم المفخخة وأحزامهم الناسفة، يقابلهم طائفيو الشيعة اللائذون بإيران وهم مسلحون بكواتم وميليشيات ورغبة في "تطهير" بغداد من أخوتهم في المواطنة.

في هذه الأجواء الجهنمية، كان المدنيون في العراق، ينشطون في العمق، يكتبون ويتحدثون في الإعلام المرئيّ، يحتجون ويتظاهرون، دون ان تكون لهم القدرة على تشكيل قوّة تزاحم قوة هؤلاء الأباطرة الطائفيين أو تحدّ من سلطانهم.

كانت أغلب نشاطاتنا في شارع المتنبي (شارع الكتب في بغداد) وهي تتراوح بين إقامةٍ أماسٍ أدبية ووقفات احتجاجية على ممارسات الحكومة، ويمكن أن نعدّ تظاهرة يوم 14 آب (أغسطس) سنة 2009 التي حدثت في شارع المتنبي أكبر تظاهرة يشهدها العراق من أجل حرية التعبير، حيث شارك بها الآلاف وكانت صدمة للحكومة التي لم تكن تفكّر أن هؤلاء المدنيين ذوي الأصوات الخافتة يمكن لهم أن يصرخوا وأن تكون صرختهم بهذه القوّة.

حدثت تلك التظاهرة بعد نشري مقالاً في جريدة الصباح (شبه الرسمية) عنوانها ثمانمائة ألف بطانية. المقال كان عن سرقة بنك (الزوية) في بغداد، وفيه اتهمتُ فصيلاً سياسياً إسلامياً بأنه هو من قام بالسرقة، حيث كانت كل الدلائل تشير إلى ذلك، ومنها أن شهود عيان قالوا بأن اللصوص اختبأوا في مقرّ جريدة ذلك الحزب!، لم أفعل في المقال شيئاً سوى اني ذكرت ان هذا الحزب المعنيّ سيقوم بشراء بطانيات بما سرقه من مال ليوزعها قبل الانتخابات لرشوة الناخبين. وقامت القيامة.

خرج شيخ في خطبة الجمعة المنقولة على الهواء مباشرة فكفّرني وهددني بشكل مباشر، واضطررت يومها إلى الاختباء لأكثر من شهر، وبعد خطبة الشيخ، تم فصلي من عملي "وكنت سكرتير تحرير الجريدة" فخرجتْ جموع المثقفين من إعلاميين وأساتذة جامعة ومعهم رواد شارع المتنبي في تلك التظاهرة المشهودة، مما اضطر الجريدة إلى إعادتي للعمل.

لكنّ تلك التظاهرة كانتْ مجرد "بروفة" لما سيحدث في شباط (فبراير) 2011.

مع حلول 2011 كانت تونس توشك أن تكمل قيامتها، ومصر تغلي بثورة الشبّان الذي كانوا ملهمين لنا، أذكر ان كثيراً من شبابنا سافروا إلى القاهرة ليشاركوا الشباب المصريّ عرسهم وتنسّمهم هواء الحريّة، ومنهم الصديق الناشط هادي المهدي الذي سيستشهد في أيلول (سبتمبر) من نفس السنة 2011 في منزله وسط بغداد برصاصتين من كاتم صوت.

يومها أرسل لي هادي صوراً له وهو في القاهرة مع شباب وشابات مصر، وكتب لي انه يتنبأ بثورة عراقية مقبلة سوف نكون شهودها، ولم يكن يدري انه سيكون شهيدها أيضاً.

قبل التظاهرة الكبرى في 25 فبراير، أقمنا ثلاث تظاهرات، الأولى في نهاية شهر كانون الثاني "يناير" 2011 في ساحة الفردوس وسط بغداد وكان شعارها "نحن أيضاً مصريون"، وكما هو واضح كانت تضامناً مع ثورة الشباب المصريّ. أما التظاهرة الثانية فأقمناها يوم 8 فبراير وأسميناها تظاهرة المكانس، وفيها حملنا مكانس لتنظيف الشوارع من شارع المتنبيّ إلى ساحة التحرير في إشارة إلى احتجاجنا على عمل أمانة بغداد وسائر المؤسسات الخدمية. ثالث التظاهرات كانت يوم 14 فبراير "عيد الحبّ" وزعنا فيها الزهور على المارّة كما وزعنا قلوباً سوداء مكتوب عليها أسماء السياسيين، في إشارة إلى ان قلوب الإسلاميين اللصوص لا تعرف الحبّ.

أتى يوم 25 فبراير مشحوناً، سبقته شائعات أطلقتها الحكومة وأجهزة أمنها من وجود "مؤامرة" تستهدف قلب نظام الحكم الديمقراطي، وشائعات أخرى عن دخول تنظيم القاعدة على خط التظاهرات، وأخرى عن نيّة إرهابيين استهداف التظاهرة، اعتقل ناشطون قبل التظاهرة بأيام، وصلتنا تهديدات كثيرة، شخصياً استخدموا معي أسلوب الترغيب والترهيب، وعدوني بترقية إذا صرفت النظر عن التظاهرة، وبالفصل من العمل إذا اشتركتُ فيها، وأذكر أن هادي

المهدي كان ينشر ما يصله من تهديدات أولاً بأول شاخراً منها ومن مرسليها.

مساء يوم 24 فبراير، خرج رئيس الوزراء في خطاب "تأريخيّ"، وكان بادياً عليه الخوف والقلق، وتوسّل الناس أن لا تخرج، مدعياً ان البعثيين هم من يقود هذه التظاهرة، وتضمنتْ خطبيته تهديدات مبطنة بقمع التظاهرة.

وبالفعل، كان الرجل مستعداً لقمع المتظاهرين بأي ثمن. القادم إلى ساحة التحرير فجر 25 فبراير 2011، سيجد أن بغداد تحولت إلى ثكنة عسكرية، لم يبق صنف من صنوف الجيش والشرطة لم يشترك في هذه "المعركة" ضدّ شباب مدنيين عزّل كل سلاحهم هو هتافهم الغاضب. كانت بالفعل ساحة حرب. كتبت يومها لو ان هذه القوات تصدّت للقاعدة لما بقي إرهابيّ واحد في العراق.

أغلقت القوات الطرق أمام السيارات المتجهة إلى وسط بغداد، قطعت الجسور بكتل الكونكريت، كل من يجيء منفرداً كان عرضة للاعتقال، وقد اعتقل كثيرون، افتعلوا مشادات مع متظاهرين وتم اختطافهم، بعضهم اختطف في سيارات إسعاف ليوهموا الناس ووسائل الإعلام انهم يسعفون مصابين.

ولعبتْ وسائل الإعلام الرسمية دوراً أبعد ما يكون عن الوطنية والمهنية، أذكر مثلاً ان القناة الفضائية الرسمية (العراقية) كانتْ تبثّ تسجيلاً للتظاهرة صوّرته السابعة صباحاً، تعيده طوال اليوم مدعية انه نقل حيّ للتظاهرة، حيث يبدو في تسجيل العراقية بضع عشرات من المتظاهرين؛ غير ان الحقيقة ان ما يقارب من المليون ضمير حيّ كان يملأ قلب بغداد.

هتف المتظاهرون ضدّ رئيس الوزراء، ضدّ المحاصصة الطائفية، ضد رموز الفساد، وطالبوا بإصلاح النظام، كان شعار التظاهرة الرئيس (الشعب يريد إصلاح النظام)، كنا واقعيين، نعرف اننا نعيش تجربة ديموقراطية، قد تكون بعض الشوائب تتخللها، وقد تكون قد أفرزتْ ساسة لصوصاً وطائفيين، لكننا كنا ندرك ان بمقدورنا تغييرهم في الانتخابات المقبلة، فلم يكن شعار الثورة أو استخدام العنف المسلح وارداً في أذهان الأعمّ الأغلب من المتظاهرين. وهذا ما عرفته

حكومة المالكي جيداً، وهو ما شكّل لها حرجاً شديداً، ذلك أن سلمية التظاهرة كانتْ تحتّم على المالكي "أخلاقياً" أن لا يجابهها بالقوّة، وربما كان المالكي وأعوانه يتمنون في أعماقهم لو ان تلك التظاهرة تنحو إلى استخدام العنف ليجدوا لهم مبرراً لقمعها.

ومع ذلك، مع ان التظاهرة كانت سلمية للغاية، ومع ان أية حكومة تحترم نفسها كانت لتفخر بشعبها الذي يتظاهر ضدّها بهذا القدر من التحضّر والشعور بالمسؤولية، مع ذلك كله كان خيار المالكيّ الأول هو القمع ثم القمع الذي لا يعرف الرجل سواه.

كانت واقعة الطائرة المروحية ايذاناً ببدء التصادم مع المتظاهرين. أمر نوري المالكي الطائرات المروحية أن تحلق فوق رؤوس المتظاهرين، إحدى المروحيات حلقت بانخفاض مبالغ فيه (هناك أفلام كثيرة تصوّر هذه الواقعة) بحيث أغمي على بعض المتظاهرين، فلم يكن أمام المتظاهرين إلا رفع أحذيتهم علامة استهزاء وتحدٍّ، كان المشهد مضحكاً: طائرة تكاد تلامس الأرض وآلاف من الأحذية تحيي قائد هذه الطائرة "البطل".

في الساعة الرابعة عصراً هجمت القوات الأمنية على المتظاهرين، لم يكنْ أغلبنا يتصوّر ان ابناء قواتنا المسلحة سيكونون على هذا القدر من الوحشية وانعدام الوطنية، لكننا كنا نعرف ان بعض الألوية الخاصة للمالكي كانت مستعدة لكل شيء، فهذه الألوية بضباطها وأفرادها كانت مكونة من قرويين من نفس القرية التي ينحدر منها السيد نوري المالكي (قرية جناجنة في قضاء طويريج)، وكان ضباط كثيرون وجنود مستعدون لقمع الشعب كله إرضاء لوليّ نعمتهم.

أصيب من أصيب، وقتل أربعة متظاهرين، كان الجنود يستخدمون الرصاص الحيّ، وتم اعتقال العشرات، من بين المعتقلين أربعة من أبرز قادة هذه التظاهرة وهم (علي السومري، حسام السراي وأخوه علي السراي وهادي المهدي الذي سيستشهد بعد شهور من التظاهرة).

انتهت التظاهرة بشكل مأساوي، خرج الناطق باسم الحكومة، ومعه الناطق باسم عمليات بغداد إلى ساحة التحرير، وكانت القناة العراقية تنقل ذلك مباشرة، ظهر الناطقان مبتسمين بحبور بعد أن قتلا عدداً من ابناء الشعب. انتصر المالكي ورهطه على العراق.

لكن التظاهرات لم تهدأ، صار طقس التظاهرات أسبوعياً، كل جمعة كنا نخرج للتحرير، عشرات الآلاف في كل جمعة، وفي كل تظاهرة كان يعتقل عدد منا. بعد أسبوعين من تظاهرة 25 فبراير اعتقلتُ أنا وعلي السومريّ وأفرج عنا لاحقاً.

استمرت احتجاجاتنا اسبوعياً في التحرير ، وكنا نتهيأ لتظاهرة كبرى يوم التاسع من أيلول (سبتمبر)، لكنْ حدثتْ واقعة خطيرة يوم الثامن من سبتمبر أي قبل التظاهرة بيوم واحد وهي اغتيال الناشط والمخرج المسرحي هادي المهدي، الذي كان نشاطه عنواناً بارزاً في الاحتجاج. لقد فهم المتظاهرون ان الغرض من اغتيال هادي هو إخافة سائر المحتجين وثنيهم عن التظاهر.

وفي اليوم التالي قمنا بتشييع هادي رمزياً من بيته في الكرادة الى ساحة التحرير حاملين تابوتاً رمزياً ملفوفاً بعلم العراق، لكن قوات الأمن أوقفتنا في ساحة كهرمانة ومنعتنا بالقوة من الوصول بالنعش للساحة وتعرضت شخصياً للضرب يومها.

كنت أثناء ذلك كله أكتب سلسلة مقالات بعنوان (يوميات متظاهر)، وبحلول نهاية العام تم فصلي من عملي في جريدة الصباح بعد أن أصبح رئيس تحريرها أحد المقربين لنوري المالكي وهو عضو سابق في حزب الدعوة الحاكم.

ساحة التحرير أصبحتْ أيقونة لكل الأحرار المطالبين بحقوقهم، كما أصبح الشهيد هادي المهدي رمزاً لكل الشباب الذين يرفضون أن يحكمهم طائفيّ لصّ.

المجد لـ 25 فبراير الأغرّ الذي سيخلد في تأريخ العراق كما خلد في تأريخ الشقيقة مصر.

المجد للحرية

المجد للأحرار في كل الأرض.