نستطيع أن نضع رؤوسنا فى الرمال كما نشاء، كما نستطيع أن نتجاهل كل التجارب العالمية فى التقدم والغنى ورفع مستويات المعيشة كما نرغب، ومن الممكن أن نرفع من الشعارات الساخنة ما نشاء، فذلك فعلناه فى عهد الركود والفساد كما كان يقال، كما فعلناه بنفس الصوت العالى فى عهد الثورة والفورة، ويمكننا أن نعيش مثل الأطفال نلعن الدنيا لأنها لا تعطينا المنح والقروض، ثم نعود للعنها مرة أخرى لأنها منحتنا المنح والقروض، كل ذلك لن يغنينا عن مواجهة الحقيقة المُرّة: إننا متخلفون وفقراء لأننا نسير وحدنا فى العالم، نتبع سياسات لم يعد يتبعها أحد غيرنا، ولا توجد لدينا الشجاعة ولا الجرأة لاتخاذ قرارات صعبة اتخذتها الغالبية الساحقة من دول العالم التى قبلت أن تشرب المُر، وأن تجعل الإصلاح الاقتصادى مشابها لإجراء عملية جراحية بدون مخدر.
منذ أيام أعلن المصرفى القدير، طارق عامر، رئيس البنك المركزى، عن وجود عزم لعرض بنكين، المرجح أنهما بنك القاهرة والآخر المصرف المتحد المملوك من قبل البنك المركزى، من أجل المساهمة فى سد عجز الموازنة العامة. وكانت مصر قبلها لم تترك ركنا فى العالم إلا وذهبت إليه من أجل سد العجز المتفاقم هذا، فذهبت إلى البنك الدولى، وصندوق النقد الدولى، وبنك التنمية الأفريقى، وإلى المملكة العربية السعودية، والصين، وإلى صناديق التنمية العربية والعالمية بكافة أنواعها. بات الأمر كما كنا فى ثمانينيات القرن الماضى حينما كانت المهمة الأولى للحكومة وممثلينا فى الخارج هى الحصول على المعونات والقروض والمنح، لأن اقتصادنا المختل هيكليا لم يعد قادرا على إصلاح الحال، ولا رفع مستويات المعيشة، فنحن الآن كما كنا آنذاك ننفق بأكثر مما نحصل من موارد، ونستورد بأكثر مما نصدر بكثير، والعجز صفة ملازمة للموازنة العامة، والاحتياطى النقدى يتآكل بعد عز، والجنيه تنخفض قيمته أمام كل العملات الدولية، وهكذا حال. ما طرحه السيد طارق عامر هو أحد قوارب الإنقاذ، ولكنه ما لم يكن جزءاً من سياسات اقتصادية عامة تقوم على رفع القيود عن الاقتصاد الحر فى مصر، وخصخصة الهيئات الاقتصادية العامة، فإن أحدا فى العالم لن يأخذنا بالجدية اللازمة للاستثمار وفتح الأسواق. فما سوف نقوم به لا يمكن أن يكون إجراء «ترقيعيا» يسد ثقبا فى الثوب المصرى بعد أن اتسع الخرق على الراتق، وإنما جزء من استراتيجية قومية للإصلاح الاقتصادى الشامل تتصالح فيه السلطة التنفيذية مع السلطة التشريعية على إنقاذ مصر مما أخذته إليها سياسات خرقاء بالية.
المهمة سوف تكون صعبة، فما أن صدر تصريح البنك المركزى حتى تصدر السيد ممتاز السعيد، وزير المالية الأسبق وعضو مجلس إدارة بنك الاستثمار القومى، المشهد معلنا أن معنى التصريح هو «عودة إلى الخصخصة» وكذلك بيع الأصول المصرية. وإذا كانت هذه هى كلمات البيروقراطية المصرية فى أشد حالاتها صفاء، فإن اليسار المصرى وتوابعه سوف يبدأون عواصفهم الخاصة. القصة ليست جديدة بالمرة فقد أخذت مجراها فى كل مرة حاولنا فيها الخروج من التخلف والفاقة والاعتماد على الآخرين بالاعتماد على أنفسنا، وعلى ما قدمه الفكر الإنسانى من رشادة اقتصادية فى تنمية الثروات القومية. وكانت النتيجة دائما فشلا يضاف إلى فشل آخر، وتجاهلا تاما للنزيف الهائل الذى تتحمله الدولة من مؤسسات قومية تأخذ أجورا بلا إنتاج «أحيانا تكون المصانع متوقفة من الأصل، ومع ذلك يطالب العمال والموظفون، ويتظاهرون من أجل صرف (الحوافز) و(الأرباح)». ولذلك لم يكن مفاجئا لأحد عندما تآلفت قوى كثيرة للاعتراض على قانون الخدمة المدنية فى مجلس النواب، لأن القانون ارتكب الجريمة الكبرى بأن نص على ربط العمل بالإنتاج، لأن السائد لدى الغالبية من العاملين فى الهيئات الاقتصادية العامة أنه لا يوجد عمل ولا إنتاج بالطبع.
بقاء الأحوال على ما هى عليه وعدم المضى قدما فى خطوات شجاعة للإصلاح الاقتصادى هو كارثة وطنية بكل مقياس، وهو فى النهاية تهيئة لحالة من الفوضى ليس لدى مصر القدرة على تحملها. هذا هو رهان الإخوان وجماعتهم من الإرهابيين، وهو رهان البيروقراطية، وهو رهان جماعات من اليسار التى لا تريد التعلم من الصين ولا من روسيا ولا من التجارب المريرة لدول مثل اليونان وصلت إلى حافة الإفلاس لأنها تجنبت قرارات صعبة لسنوات طويلة. المسألة ببساطة أن هذه كانت القصة المصرية طوال العقود الماضية، والطريف أنه كلما حاولنا الهروب من اتخاذ قرارات مؤلمة بسد احتياجاتنا من الآخرين، كان الحديث عن تلك المؤامرة الكبرى التى تجعلهم يعطوننا القليل اللهم بالقدر الكافى الذى يجعلنا نطفو، وإنما بالقدر الكافى فقط لكى لا نغرق. طريف الكلام هذا قيل عن الاتحاد السوفيتى، والولايات المتحدة، وأوروبا، والدول العربية، وكأن مساعدتهم لنا بالقدر الذى نريده للإنفاق على مؤسسات خاسرة أو مفلسة هو ما كتب على اللوح المحفوظ والكتابات المقدسة.
الغريب أن فى منطقتنا الآن، نعم منطقتنا العربية النفطية وغير النفطية، موجة كبيرة من الإصلاح الاقتصادى يجعل دولا مثل الإمارات العربية المتحدة والسعودية والأردن وتونس والمغرب وقطر وعمان تصعد صعودا كبيرا فى المؤشرات الدولية الواردة فى تقارير التنافسية وأداء الأعمال والذى يعنى تحرير الاقتصاد وتحرير المجتمع. مصر مع دول قليلة قابعة فى مكانها المتخلف، بل هى الأكثر تخلفا مما كانت عليه فى كل العصور البائدة، وبعد حديث وصراخ عن الكرامة التى يجب أن تصان. ولا خروج من هذا المأزق إلا بالاعتماد على الذات، ليس على الطريقة السوفيتية التى لم يعد يتبعها أحد حتى فى فيتنام (معذرة هناك كوريا الشمالية!) وإنما على الموارد المصرية الطائلة والمعتقلة فى معتقلات القطاع العام والهيئات الاقتصادية العامة والتى تحرسها أعلام الإرهاب الفكرى. لن يحدثك أحد أبدا عن الخسائر، ولا السحب على المكشوف، ولا عن غياب المصداقية القومية فى أننا شعب عزم على الخروج مما هو فيه، ولا حتى بانت له إرادة الخروج من معتقل الكلمات المضحكة التى تثير شفقة الدنيا بأسرها على بلد قاد الحضارة البشرية بالكد والعمل، وانتهى به الأمر إلى البحث عن دعم الدولة ومن بعده دعم الشعب.
إذا كانت النيات صادقة بالفعل هذه المرة فلا بد من أمور هامة: أولها أن تكون هناك استراتيجية، وثانيها ألا تكون الاستراتيجية قائمة على إلهاء المجتمع الاقتصادى الدولى بخصخصة بنكين، وثالثها أن تتكاتف مؤسسات الدولة من الرئاسة إلى الحكومة من أجل شرح الأمر إلى الرأى العام وتجارب الدول فيه، ورابعها أن تشكل فارقا جوهريا فى تخفيض عجز الموازنة العامة، وخامسها أن تنقذ مؤسسات كبرى فى مصر أوشكت على الغرق. وسادسها أن تكون هناك صراحة مع الشعب المصرى، فللخصخصة أصولها العالمية، وإذا كنا نريد فرض العمال على المشترى فإن معنى ذلك تخفيض السعر، وهكذا الحال مع كل الشروط الاستثنائية التى تعيق المستثمر عن الانطلاق. وسابعها أن مصداقية الدولة على المحك، ولا يمكن أن تفك الدولة التزاماتها نتيجة اعتراض من ليست لهم مصلحة، ومن ثم لا بد من الاعتماد على وسائل ذات ثقة لإتمام عمليات الخصخصة، سواء كانت لمستثمر خاص، أو بالطرح فى سوق المال، أو بالدخول فى شراكة دولية من قبل الدولة عندما تمتلك قدرا من الأسهم.
الطريق طويل وهناك اعتبارات فنية كثيرة يعرفها المتخصصون، ولكن إصلاح نظام المواصلات فى مصر، والصحافة «القومية»، وشركة مصر للطيران، والبنوك، وهيئة البريد، وكل ما هو فى غالبية الدول مؤسسات خاصة، سوف يكون أول الكتابة فى أول السطر لتقرير المصير الاقتصادى والاجتماعى والسياسى المصرى خلال السنوات بل العقود المقبلة.