مع حلول الذكرى الخامسة لثورة يناير المجيدة تتصارع رؤيتان فى مصر؛ واحدة متعجِّلة ومُغرضة تريد أن تهيل ركاماً ثقيلاً على إرادة التغيير إلى الأفضل التى انعقدت للأمة المصرية فى لحظة فارقة. وراح أصحاب هذه الرؤية ينعتون الثورة بالمؤامرة، مستغلين مشهداً جانبياً معزولاً، سمح لهم بتوظيفه فى دعاية سوداء مسمومة بغية أن يفقد الشعب الثقة فى نفسه، ويتخلى عن رغبته فى الانتقال إلى وضع يليق به، ويرضى من الغنيمة بالإياب، وينسى ما قدمه من تضحيات.
أما الرؤية الثانية، وهى الأصوب، والتى ستستقر تاريخياً، فتنطلق من أن «يناير» كانت ثورة عظيمة تآمرت عليها سبعة أطراف أو جهات، أو لِنَقُل ثعالب، أولها جماعة الإخوان التى رأت فيها فرصة سانحة كى تقفز إلى السلطة، متخلية، بل متنكِّرة للاتجاه المدنى الوطنى للطليعة الثورية وللقاعدة الشعبية التى انضمت إليها.
وثانيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى تسلَّم الحكم من مبارك فاعتبر الثورة مجرد انتفاضة تخلَّص بها من سيناريو توريث الحكم، ليعيد السلطة إلى الجيش استمراراً لشرعية ثورة 23 يوليو.
وقد تحالف هذان الطرفان مؤقتاً، وكل منهما كان يتربص بالآخر، وكان لتحالفهما ثم صراعهما أثر كبير فى تعويق المسار الثورى، بل إن استمرار الإخوان فى مزاعمهم بأنهم أصحاب ثورة يناير يعطى السلطة الحالية فرصة سانحة للتعمية على الثورة وإزاحة رموزها من المشهد، اتكاءً على كراهية الشارع بصفة عامة لتدبير الإخوان وتفكيرهم.
والثالث هو أركان النظام الذى قامت الثورة ضده، فهؤلاء رسخوا لطول بقائهم فى السلطة ركائز قوية، مالية وبيروقراطية وأمنية وإعلامية، كانت قادرة على الصد والرد، فحوَّلوا بهذا خسارتهم الفادحة فور سقوطهم عن الحكم إلى نجاح متدرج، وتسللوا مرة أخرى إلى الواجهة، خاصة فى ظل التشويه المتعمد للثورة، الذى شاركهم فيه المجلس العسكرى، الذى كان يقاوم التغيير الجذرى، وجماعة الإخوان وحلفاؤها من التيار الدينى الذين كانوا يصارعون الروح المدنية والوطنية والشعبوية ليناير.
والرابع هو قوى إقليمية رأت أن التغيير الجذرى فى مصر يهدد نظمها واستقرار بلدانها، من منطلق اقتناع أوجدته حكمة التاريخ ومعطياته يقول إن مصر إن تغيَّرت تغيَّر العالم العربى، بل الشرق الأوسط برمته.
والخامس هو القوى الدولية، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، التى اعترفت على لسان كبار مسؤوليها بأن الثورة المصرية قد فاجأتها، وسارعت إلى بناء شبكة علاقات وأنماط تحالف تحافظ على مصالحها، ولم يكن هذا التوجه فى جوهره إلا المساعدة فى استعادة النظام الذى كانت تتعامل معه كصديق أو حليف، أو البحث عن بديل آمن للمصالح الأمريكية، وهنا ظهر التقارب مع الإخوان والتعويل عليهم.
أما الطرف السادس فيتمثل فى الانتهازيين من الثوار أو ثوار ما بعد الثورة، أولئك الذين سارعوا إلى تكوين ائتلافات لا يجمع بينها ناظم حقيقى، وبعض القائمين عليها كان همهم الأساسى هو استغلال المد الثورى فى اقتناص المنافع الشخصية، وكان من بينهم أناس على علاقة قوية بالنظام الذى قامت ضده الثورة، بل إن بعضهم كان يقع فى قلبه، لكنه قفز من السفينة فى الوقت المناسب.
والطرف السابع هو القوى السياسية الحزبية التقليدية التى كانت تعيش على الفتات المتاح من نظام مبارك، وترضى بالهامش البارد الذى تم رسمه لها، ووجدت فى الثورة ما يهدد وجودها ومصالحها، فجارَتْها ونافقتْها فى العلن، مظهرة تأييدها لها، ولعنها فى السر، ثم سعت إلى إجهاضها، بالتواطؤ مع كل الأطراف التى عملت فى هذا الاتجاه.
هاتان الرؤيتان بين حقيقية عادلة تقول إنها «ثورة تم التآمر عليها» وزائفة ومصطنعة تقول بل هى «مؤامرة فى ثوب ثورة»، ترسمان إلى حد بعيد ملامح مَنْ ربح ومَنْ خسر من ثورة يناير.
ويمكن ببساطة أن نقول إن الرابح الأكبر، لكن مؤقتاً، هو الجيش الذى جدَّد شرعيته، ولاسيما بعد إطاحة حكم الإخوان، حيث ضخ دماء جديدة فى شرعية يوليو التى كانت تتآكل منذ منتصف السبعينيات حين قاد السادات ثورة مضادة ناعمة على مشروع عبدالناصر.
واستفاد من الثورة محتكرون هم أشبه بـ«تجار الحروب» حيث حققوا أرباحاً طائلة مستغلين حالة الاضطراب التى مرت بها البلاد.
ويمكن أن يقال على نطاق واسع إن الشعب المصرى قد استفاد من الثورة على المدى البعيد، فبعد أن كانت إرادته مجهضة، ورأيه مغيباً، والسلطة تتعامل معه ككم مهمل، لا وزن له ولا قيمة، عاد إلى الواجهة يُحسب حسابه، ويُنظر إليه باعتباره صاحب السيادة، ومصدر السلطة، وأن مَنْ يكسبه إلى جانبه يصعد، ومَنْ يخسره يهبط إلى أسفل سافلين.
فى المقابل خسر التيار الدينى السياسى كثيراً بصعوده إلى أعلى، وحيازته السلطة فى أعلى مراتبها، إذ إن وقوفه على المسرح أظهر عوراته التى كان يخفيها، وأفقده الصور الإيجابية التى كان يتسربل بها طيلة العقود الفائتة، حيث كان الناس ينظرون إلى أتباع هذا التيار على أنهم شهداء أو ضحايا أو مناضلون، فلما قامت الثورة وأصعدتهم إلى الحكم بان ما كانوا يخفونه تقية وخداعاً، فأسقطهم الشعب مِنْ حالق، بل كانوا هم أكثر الخاسرين، لأنه قد تم رفضهم هذه المرة ونبذهم من الناس، وليس من السلطة فحسب كما كان يحدث من قبل.
وخسر أيضاً كبار رجال نظام مبارك، فمن حكموا بعد الثورة كان بوسعهم أن يتسامحوا مع رجال الصفين الثانى والثالث من النظام، ويستعملوا قواهم المعرفية والمادية والاجتماعية التى كان يوظفها المخلوع مبارك لخدمة نظام حكمه، فى خدمة سلطة ما بعد الثورة، لكن كان من الصعب بل من المستحيل أن يتم فتح أى فرجة ليطل منها رجال الصف الأول، ليس لأن هذا كان سيثير حفيظة من ثاروا فحسب، بل أيضاً لأن من حازوا السلطة أدركوا أن هؤلاء يمكن أن يشكلوا منافسين لهم فى المستقبل، ولاسيما أن من حكموا لا تبدو نواياهم متجهة إلى نصرة الثورة، بل احتواؤها وتفريغها من مضمونها، تحت وهم أن هذه هى الطريقة المثلى للحفاظ على الدولة، وبالتالى لن يكون بوسعهم أن يقدموا شيئاً مختلفاً عن أركان نظام مبارك.
وخسرت أيضاً وجوه يكاد يلفها النسيان، كانت من المناصرين الأشداء لنظام مبارك فى الإعلام والإدارة، ولم يكن بوسع هؤلاء تعويم أنفسهم مع المسار الذى صنعته الثورة.
وخسر أهالى الشهداء والمصابون، ممن أدركوا أن الدماء الزكية التى أريقت لم تكن بغية تحصيل معاش أو مكافأة، إنما فى سبيل بناء مصر جديدة، تنعم بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والتنمية المستدامة واستقلال القرار السياسى. وخسر، حتى الآن، بعض شباب الثورة، ممن أُخذوا عنوة إلى غياهب السجون، والمعارضون الأشداء لنظام مبارك، الذين لم يتقبلهم نظام ما بعد الثورة نظراً لأنهم تمسكوا بتغيير جذرى، وليس مجرد إجراءات تزيينية أو تجميلية.
مع كل هذا لا يمكن أن نضع حداً نهائياً لحساب المكسب والخسارة فى ثورة يناير بعد سنوات خمس فقط من اندلاعها، وليس بوسع أحد أن يقول الآن: هذا خسر خسارة نهائية، وذاك ربح وانتهى الأمر، فقوس الثورة الأول قد فُتح فى 25 يناير 2011، لكن قوسها الثانى لم يغلق بعد، وهذا ما علَّمتنا إياه تجارب أمم أخرى عرفت ثورات كبرى، وتم الارتداد عليها، ولعنها ونعتها بالمؤامرة، وتحميلها مسؤولية الفوضى والخراب، مع أن النظم التى قامت عليها هذه الثورات هى التى كانت تؤسس لتلك الفوضى وهذا الخراب، ثم بانت للناس الحقيقة، وعاد إليهم الوعى، فرجعوا يؤمنون بأنْ لا فكاك من التغيير إلى الأفضل، وبالتالى تغيرت الموازين، واختلفت المقامات، وثورة يناير ليست استثناءً من هذا، والأيام بيننا.