أزمة الشخص ما قبل الثلاثين فى كل زمان ومكان هى كالتالى: طاقة هائلة، خاصة من الناحية الجسدية. قدرٌ هائل من الطموح، والأمل فى المُستقبل الذى مازال بالإمكان تشكيله. شعورٌ طاغٍ بالاستحقاق والأفضلية. على الجانب الآخر، نقصٌ- منطقى- فى الخبرة بالحياة والناس وبمجالات العمل المختلفة. هذا النقص لا يُعادل تلك الطاقة، وليس على مستوى ذاك الطموح. هنا تكمن الأزمة. ولكى تكتمل الخلطة، فهناك القلق، ثم المزيد منه: قلقٌ من أن القطار يمضى بأسرع مما يظن (قطار العمل/ الزواج/ كسب المال)، وأن عليه أن يجرى بأقصى سرعته لكى يلحق به، وإلا فنصيبه الخسران والندامة. بكلام آخر، هناك قلقٌ لدى المرء فى هذه السن بأنه لن يجد المكان الذى يستحقه فى الحياة. أنه سوف يتعرض لظلمٍ لا دخل له فيه.
هذه، باختصار، أزمة الفرد فى سن الشباب (من 18 إلى 30 سنة). ماذا عن أزمة المجتمع مع هذا الفرد؟ كيف يتعاطى المُجتمع مع إنسان لديه طاقة كبيرة، وطموحات أكبر، وقلق بلا حدود، مع نضج غير مُكتمل؟
عبر التاريخ، أغلبُ المجتمعات الإنسانية تحكم فيها كبار السن، وليس الشباب. فى المُجتمعات القديمة والتقليدية، كان هناك شيوخ للقبيلة. السبب أن السُلطة السياسية فى المُجتمع- أى مجتمع- تتحقق بالخبرة وبناء التحالفات، وليس بالقوة الجسدية. الخبرة وتكوين التحالفات تستلزم زمناً لا يتوفر إلا للكهول والشيوخ. وعليه، يجد الشباب أنفسهم أسرى لقواعد حديدية يضعها كبار السن. هذه القواعد غايتها تحجيم الطاقة الشابة. السيطرة عليها وتوجيهها فى قنوات بعينها، باعتبارها طاقة مُدمرة لو حدث وخرجت عن عقالها.
بطبيعة الحال، هناك نوابغ كسروا القاعدة. الإسكندر الأكبر، وطرفة بن العبد، وجان دارك، ومصطفى كامل.. مجرد أمثلة. هناك نوابغ من نوع مختلف فى عصرنا الحالى. زوكيربرج (صاحب فيسبوك)، ولارى بيج وسيرجى برين (مُبتكرا جوجل) نماذج لشباب غيروا العالم قبل الثلاثين. تركيبة الاقتصاد العالمى فى عصر المعلومات هى التى أفرزت هذه النماذج. مشروعات تكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها لا تحتاج إلى رأس مال كبير، مثلما الحال مع إقامة مصانع مثلاً. بل هى تتطلب أساساً تعليماً فائقاً، وقدرة على الإبداع والخيال، مع ميل للمبادرة. هذه العوامل كلها تتوفر فى الشباب أكثر من غيرهم. لذلك، فإن بعض من هم فوق الثلاثين يشتكون من أن الشركات الكبرى فى وادى السيليكون تُميز ضدهم، وتعتبرهم «عجائز». الشركات تبحث عن العشرينيين لأنهم أكثر إبداعاً وعطاء وحماساً.
السواد الأعظم من الشباب ليسوا الإسكندر الأكبر ولا زوكيربرج. فى العالم اليوم نحو 1.8 مليار شاب (أى ربع السُكان). 85% من هؤلاء يعيشون فى العالم النامى. ثمة مُشكلات مشتركة يُعانى منها الجيل الحالى، جيل الألفية. أهم المُشكلات على الإطلاق هى البطالة.
فى أغلب المُجتمعات، مُعدل البطالة بين الشباب أعلى كثيراً من مثيله فى الفئات العُمرية الأكبر. فى إيطاليا النسبة هى 40%، وفى إسبانيا 48%. بطالة الشباب فى العالم العربى هى ضعف المُعدل العالمى. سببُ انتشار البطالة بين الشباب بالذات هو تركيبة الاقتصاد نفسه. قوانين العمل، فى مُعظم الاقتصادات الأوروبية مثلاً، مُصممة لحماية من لديهم وظائف بالفعل. النقابات تُدافع عن حقوق هؤلاء. الأحزاب تناضل من أجل الحد الأدنى للأجور لهؤلاء. هذه التفاعلات كُلها تدفع أصحاب العمل للإحجام عن توظيف شباب جُدد. الأمان الوظيفى الزائد عن الحد يضرب التوظيف فى مقتل. المنظومة الاقتصادية كلها تمنح مزايا أكبر لأصحاب المعاشات على حساب الشباب. هى تمول هذا عبر الاستدانة من الأجيال القادمة، أى من شباب اليوم!
هناك عامل آخر مهم. أغلب من يذهبون للتصويت فى الانتخابات، فى العالم الغنى والنامى على حد سواء، هم من كبار السن. هؤلاء لديهم الوقت والحماس للدفاع عن مصالحهم فى صناديق الاقتراع. رُبما يكون للشباب اهتمامات سياسية، غير أنه لا يثق فى المؤسسات الحزبية والحكومية. لهذا مشاركته مازالت ضعيفة. إنها مشكلة عالمية.
الوضع فى مصر ليس بعيداً عن هذا. النظام الاقتصادى والاجتماعى يضع أعباء هائلة على كاهل الشباب من دون أن يُسلحهم بالمهارات الكافية للتعامل مع هذه الأعباء. هذا النظام مُصمم- اقتصادياً- بطريقة تحرم الشباب من وظائف جيدة فى سن مُبكرة (لأنه يحمى وظائف من هم أكبر سناً). الحرمان من العمل فى العشرينيات يحجب عن المجتمع طاقة اقتصادية مُهمة. الأخطر أنه يحرم الشباب من اكتساب الخبرات العملية الضرورية فى سن حاسمة فى تشكيل وعيهم. من ناحية أخرى، القيم السائدة تُحتم الزواج فى سن مبكرة، خاصة أن المجتمع لا يقبل بالعلاقات خارج مؤسسة الزواج. هذان العاملان يضغطان على أعصاب الشباب، من الجنسين، كشقى رحى. يستفزان كل عوامل القلق والشعور بالظلم فى نفوسهم. الأمرُ يحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد الاحتواء. فتح القنوات أمام من هم دون الثلاثين يقتضى تعديلات فى منظومة الاقتصاد وقوانين العمل والاستثمار ونظم التعليم القائمة. تعديلات جوهرية، وليست شكلية. جوهر التعديلات أن يتخلى الكبار قليلاً عن أنانيتهم. من ناحية أخرى، الشبابُ مطالبون بالتخلى قليلاً عن شعورهم الزائد بالاستحقاق والتفوق.
من يُتابع المزاج العام فى بلدنا سيُدهش لهذه الحالة من الهلع من الشباب، وكأنهم وحوش شريرة كاسرة تسير على قدمين. الكهول والعجائز يظهرون نوعاً من الذُعر لهذه الطاقة المتفجرة التى صارت- فى نظرهم- أكبر خطر يُهدد استقرار المُجتمع. إنه مرضٌ سياسى/ اجتماعى جديد: «شبابوفوبيا»، أو رُهاب الشباب. لا يُمكن أن يرتقى مُجتمع تسود فيه حالة كراهية واحتقار متبادل بين الأجيال لهذه الدرجة المُخيفة. العلاقة بين الأجيال، بطبيعتها، متوترة ومُركبة. أن تصل هذه العلاقة إلى مرحلة العداء أو الفوبيا، فهو شىء يستحق منا وقفة طويلة مع النفس.