مُنتصف نهار 25 يناير 2011.. كُنت مع الصديقين العزيزين «سليمان جودة، وأسامة هيكل» بمقر حزب الوفد.. بمناسبة تعيينهما (رئيسين لتحرير جريدة الوفد) ليصبح المركب (بريِّسين)!!.
وبما أن الحكاية كانت غريبة بتعيين اثنين لوظيفة واحدة.. حكيت لهما تجربة صديقى وأستاذى الراحل «عبدالوهاب مطاوع» مع المحترم جداً الأستاذ سامى متولى فى (إدارة تحرير جريدة الأهرام).. وكنت حاضراً بالصدفة عدَّة مرَّات بمكتب الأستاذ «عبدالوهاب» بالدور الرابع، وشاهدت كيف يتعاون كلاهما بمنتهى الإخلاص والشفافية، وكان (الاثنان) هما المسؤولين عن إدارة التحرير!!.
فى الثالثة والنصف سمعنا أصواتاً وهتافات، مصدرها شارع التحرير الذى يبعُد 500 متر عن مبنى جريدة الوفد.. وكان تعليق الأستاذ أُسامة: «المظاهرات دى مش هتعدى على خير». نظام مبارك فى خطر.. والرئيس لازم (يشيل وزير الداخلية حبيب العادلى)».. وكان رأى الأستاذ سليمان «حل مجلس الشعب» فوراً!!
فى طريقى للعودة إلى المعادى.. فُوجئت بأن شارع التحرير مُغلق بآلاف المتظاهرين.. خلعت الكرافتة والجاكت لأنضم إلى الحشود نُردِّد هتافات: «يا حُرِّية فينك فينك- حبيب العادلى بينَّا وبينك».. وهتافات أخرى، حتى وصلنا إلى ميدان التحرير.. لنفاجأ بآلاف الشباب يزحفون من الشوارع الجانبية!!
وصلت إلى مقهى ريش وصديقنا اللواء مجدى عبدالملاك صاحب المقهى يتساءل، والكل مُندهش من الأعداد التى ملأت ميدان طلعت حرب، شباب وفتيات من كل الأعمار تهتف بالحرية.. الكل غاضب.. مُتحمِّس.. والقصد واحد: «إقالة وزير الداخلية، وحل مجلس الشعب» الذى جاء بالتزوير!!.
أمام المقهى انزلقت قدمى لأعود محمولاً إلى السيارة عائداً للمنزل فى التاسعة مساءً.. مُنتظراً بيانا من الرئيس ردَّاً على مطالب المتظاهرين.. ولم يحدث شىء!!
اتصلت بصديقى اللواء حمدى عبدالكريم، مسؤول الإعلام بالداخلية (الذى كان يُعالج فى باريس من السرطان، وكنت من رعاته فى رحلة علاجــه، باعتبارى رئيساً للجالية من واجبى مساعدة كل مصرى)!!
سألته: «الوزير هيمشى؟».
فرد بسخرية: «وزير إيه اللى هيمشى يا دكتور!.. دول شوية عيال صيَّع هايخدوا بالجزمة و..» قاطعته بغضب قائلاً: «قبل ما تغلط.. أنا كُنت معاهم من الدقى للتحرير، والشباب اللى أنا شفته شباب زى الورد، لا فيه صيَّع ولا يحزنون.. وعايز أقول لك: لو الوزير مامشيش هيحصل مُشكلة كبيرة.. وهتشوف!!».
ضحك وقال: «تراهنى على بيتزا فى الشانزليزيه؟!!».. قُلت له: «خللى بالك أنا مابهزَّرش.. الناس دى هتكمِّل ومش هتسكُت.. صدَّقنى!!».
الجمعة 28 يناير.. خرجت مع زوجتى من المعادى العاشرة صباحاً.. كانت الطرق مُغلقة من ناحية مدينة نصر.. ومن الشوارع الخلفية وصلنا إلى كوبرى علوى بشارع امتداد رمسيس منتصف النهار، وأنا مستند إلى عُكاز.. وكان المشهد مُثيراً.. عشرات الآلاف من الشباب تهتف بسقوط «مبارك»، وقنابل الدخان تخنقنا وتُعمينا.. وأعلى الكوبرى مئات من كبار السن يُحيِّون الشباب، ويرددون معهم الهتافات.. والشرطة تتراجع عاجزة عن صد الأفواج الهادرة، والشباب يزحف مُقتلعا الحواجز، مُعيداً القنابل المسيلة للدموع إلى عساكر الشرطة المساكين الذين بدا عليهم الإجهاد.. وأُصيب الضباط بحالة من الارتباك أمام إصرار الشباب وحماسهم.. (وللحق كان بعضهم متعاطفا مع الشباب، وأعرف كثيرين منهم كانوا مع مطالب الثورة) ولكنهم عبدالمأمور!!
حتى جاء خطاب الرئيس.. الذى داعب عواطفنا، ودغدغ مشاعرنا، عندما قال: «أريد أن أموت وأدفن فى ترابها».. وأنه لن يترشح و.. و.. »، ورنَّ جرس التليفون من باريس.. شباب مصرى يسألنى رأيى فيما قاله مبارك.. قُلت: نتيجة ممتازة... وعلينا أن نقبلها.. ليه؟ حتى لا نهدم المعبد على رؤوسنا.. وعموما ميدان التحرير موجود ننزلُّهم تانى. وغضب منى بعض الشباب.. إَّزاى يا دكتور تقول كدا؟!!.. دا راجل كدَّاب وهيجيب ابنه.. والعصابة بتاعته هيضحكوا علينا، وماتصدَّقهوش.. دا هينتقموا مننا وبكرة تشوف.. وجاءت موقعة الجمل لتُشعل الميدان من جديد!!.
بعد رحيل مبارك بأسبوع كتبت (فى نفس هذا المكان) مقالا بعنوان «دقِّت ساعة العمل» أحث الناس على الجدية وضرورة أن نعمل يداً واحدة، وآخر بعنوان «إعدام الثوار» ممكن أن تقرأوه على النت.. خُلاصته: «فى فرنسا أعدموا الثوار، بعد سنتين من الثورة الفرنسية».. ليه؟
لأن الناس كانوا متصوِّرين أن «الثورة» ستُجبر السماء على أن تُمطر ذهباً وفضَّة وألماظا.. فلم تُمطر سوى الفقر وضياع الأمان وعدم الاستقرار.. فقارن الناس بين أحوالهم أيام الملك وأحوالهم بعد الثورة.. فندموا على أيام الملكية.. وقبضوا على الثوار، وقطعوا رؤوسهم بنفس المقصلة التى قطعوا بها رأس الإمبراطور والملكة زوجته!!
وبعد مائة سنة من العمل الجاد والشاق فى ظل دستور الثورة.. الذى وضعه أول رئيس للجمهورية الفرنسية «لويس نابليون بونابرت».. والذى أجبر الناس على العمل 12 ساعة يومياً لينهضوا ويتقدَّموا.. ورسخ قيما ومعادلات جديدة.. حتى حققت الثورة أهدافها من (الرخاء والحرية والمساواة).. وأصبحت الثورة الفرنسية تُدرَّس فى كل دول العالم، على أنها أعظم ثورة فى تاريخ البشرية!!.
ليُصبح الثوار الذين قاموا بها (وقطعوا رؤوسهم جزاءً لهم).. «شخصيات تاريخية».. أطلقوا أسماءهم على الشوارع والمدارس.. يُـكرِّمونهم فى كل مناسبة أو ذكرى.. وأعاد لهم التاريخ حقهم بعد مائة سنة!!.
وهكذا هو التاريخ.. يُعيد الحق لأصحابه ولو بعد أجيال!!.
سلامًا على شُهداء الثورة جميعاً، وشهداء الجيش والشرطة، وتحية لكل من دافع عن حلم «إعادة بناء مصر».. مصر التى فى خاطرنا جميعا.. حتى لو اختلفت بهم السُبل!!