« أكان زمن الأمان؟»

الأنبا إرميا السبت 23-01-2016 21:13

استكمالاً للمقالات السابقة عن حالة «اليهود» السياسية قبل ميلاد السيد المسيح وبعده، التى كانت من خلال خضوعهم لملوك «سوريا»، ثم بعض فترات من الاستقلال فى عصر المَكابيِّين، إلى أن خضعت «اليهودية» عام ٦٣ ق. م للدولة الرومانية، وهكذا ظل الحال حتى ضاق الرومان بما يسببه «اليهود» لهم من متاعب، فأرسلوا «ڤاسْباسيان» على رأس جيش كبير حاصر مدينة «أورُشليم»، ولكن هذا ليس مجاله فى هذه المقالة.

تولى الحكم بعد موت «هِيرُودُس الكبير» أبناؤه الثلاثة: «أرخِيلاوُس» و«هِيرُودُس أنتِيباس» و«فِيلِبُّس». وتحدثنا عن «أرخِيلاوُس» وحكمه الظالم «لليهودية» و«السامرة» و«أدومية»، فأقاله قيصر «روما». ويذكر المؤرخ اليهودى «يُوسِيفُوس» أن «أرخِيلاوُس» أخذ امرأة أخيه، وعندما صارت فى منزله رأت زوجها «إسكندر» فى حُلم وهو فى حالة حزن وغضب شديدين عليها، وعندما أرادت أن تدنو منه منعها وقال لها: «أما كفاكِ أنكِ تزوجتِ بعدى بفلان، حتى تزوجتِ من بعده (أرخِيلاوُس) أخى، وكسَوتِنى العار والفضيحة». ثم أعلن لها أنه لن يصفح عنها، بل سينتقم مها ومن «أرخِيلاوُس». واستيقظت المرأة وهى فى فزع ورعب شديدين، وأخبرت من لديها بما رأته فى حُلمها. ثم ماتت بعد يومين. أما «أرخِيلاوُس» فقد رأى هو أيضًا حُلمًا: أنه كان يحمل بين يديه سَبع سنابل من أصل واحد، وهى حسَنة المنظر، فإذا بثور عظيم يُقبل نحوه ويبتلعها. فكان أنه قص حُلمه على بعض العلماء الذين أخبروه أن قيصر، ملك الروم، سيُبعده عن الحكم بعد أن تولاه سَبع سنوات. وكتب «يُوسِيفُوس»: «فلما كان بعد أيام يسيرة، أن ورد قائد من (أوغسطس قيصر) إلى (أورُشليم) فقبض على (أرخِيلاوُس)، وقيَّده، وحمَله إلى «رومية»، فمات فيها، وكانت مدة مُلكه سَبع سنين...». وملَك أخوه من بعده.

«هِيرُودُس أنتِيباس»

حكم «هِيرُودُس أنتِيباس»، وكان كثير الشبه بأبيه فى فساده. وهو الذى ذُكر عنه أنه أحب «هِيرُودِيا» زوجة أخيه «فِيلِبُّس»، التى قام بتطليق زوجته رغبةً فى الزواج منها، ما جعل «يوحنا المَعمَدان» النبى، يقول له: «لا يحِل لك» إذ كان متعديا بزيجته هذه على شرائع الناموس. لذلك وضع «يوحنا المَعمَدان» فى السجن، ثم قطع رأسه بعد طلب «سالومى» ابنة «هِيرُودِيا» لرأس «يوحنا»، إذ كان قد أقسم لها أن يهب لها كل ما تريد إلى نصف مملكته! وذلك بعد أن أعجبته برقصها له فى عيد ميلاده. ويذكر المؤرخ اليهودى «يُوسِيفُوس»: (وكان «هِيرُودُس» هذا شرَّ من أخيه «أرخِيلاوُس» وأقبح أفعالاً، وكان مسرفًا فى النسوة والمعاصى. وهو الذى أخذ امرأة «فيلبس» أخيه وهو حى، وله منها ولدان، واسم المرأة «هِيرُودِيا»... وقتل «يوحنا بن زكريا» الحَبر الأعظم الكاهن الأكبر لَما أنكر عليه أخذ امرأة أخيه وهو حى...).

اشترك «هِيرُودُس أنتِيباس» فى محاكمة السيد المسيح وهزأ به وأهانه، وقد مات فى أيام حكمه «أوغسطس قيصر»، فملك من بعده «طِيبارِيُوس قيصر» وكان قاسيًا وفاسدًا: فقد أمر الشعب بالسُّجود لصورته، وأرسل إلى أورُشليم بأحد قواده يُدعى «بِيلاطُس» ومعه صنم على صورته ليسجد له الشعب. ولكنّ الشعب رفض فقُتل منه عدد كبير. وقد ملك «هِيرُودُس أنتيباس» إحدى وعشرين سنة تقريبًا. ثم أرسل «طِيبارِيُوس قيصر» أحد جنوده وحمل «هِيرُودُس» إلى «إسبانيا» حيث مات، وقد ملك من بعده ابن أخيه «أغرِيباس» بن «أرِسطُوبولُس» الذى قُتل بيد أبيه «هِيرُودُس الكبير».

«أغريباس بن أرسطُوبولُس»

وكان «أغريباس»، ملك اليهود، حاكمًا «حسَن السيرة، محمود الطريقة، فاضلاً، خيّرًا. وكان مكرَّمًا عند قيصر، موقَّرًا طول حياته»، بحسب ما ذكر «يُوسِيفوس» المؤرخ. وقد حكم من بعده ابنه المسمَّى على اسمه: «أغرِيباس». وقد حدث فى أيام الملك «أغريباس الثانى» خراب أورُشليم وتشتُّت «اليهود» بين الأمم. وملَك «أغريباس الثانى» عشرين سنة، وكانت أيامه حروبًا وقلاقل بين «اليهود» و«الرومان» حتى خراب «أورُشليم».

ويذكر المؤرخون أن «اليهود» لم يصمتوا إزاء احتلال «الرومان» لأرضهم ومدينة «أورشليم» آنذاك، فكانوا أحيانًا يتهددون الوُلاة، وفى أحيان أخرى يطردون الجُنود الرومانيِّين من مدينة «أورُشليم»، وتارة أخرى يظهرون الرضا بحكم الأباطرة الرومان. وكانت من الحركات المقاوِمة التى ظهرت قبل ميلاد السيد المسيح جماعة اسمها «الغَيُورون».

«الغَيُورون»

أدى خُضوع «اليهود» لـ«الرومان»، مع حكمهم القاسى والدموى فى كثير من الأحيان، إلى ظهور جماعات قاومت الحكم الرومانى، ومنها جماعة أطلق عليها اسم «زِيَلُوت» أو «الغَيُورون».

قاومت جماعة «الغَيُورون» الاحتلال الرومانى لبلادها، رافضةً تبعية «اليهود» لـ«الرومان»، غير معترفة بقيصر كملك عليها، معتبرةً أن فى ذلك خيانة لله ملك «إسرائيل»، ولذلك أخذت تنادى بالاستقلال عن الحكم الرومانى. وقد ظهر نشاط هذه الجماعة على نحو واسع فى القرن الأول الميلادى، ونادى المتطرفون منها بحمل السلاح واستخدامه، وهو ما أدى إلى ظهور مجموعة منها عُرفت باسم «سِيكارى» أى «حَمَلة الخناجر»، وجاءت الكلمة من اللفظة اللاتينية «سِيكا» أى «خَِنجر». وقد قامت «سِيكارى» بعمليات الاغتيال المنظمة، وطُعن الرومانيِّين بالخناجر. وقد نالت جماعة «الغَيُورون» تعاطفًا وانحيازًا كبيرًا من الشعب اليهودى الذى يَئن تحت وطأة الحكم الرومانى. وقد انتهت جماعة «الغَيُورون» بعد حصار «أورُشليم» وتدمير المدينة والهيكل.

وهكذا كانت نتيجة السلطة والاضطهاد الذى تعرض له الشعب اليهودى أن سادهم اشتياق إلى تحقيق النبوءات التى ذُكرت عن المسيح، الذى فى اعتقادهم سيُعِيد مملكة «داوُد».

الطوائف اليهودية

«الفَرِّيسيُّون»

«فَرِّيسىّ» أى «مُفرَز»، فقد اعتبر «الفَرِّيسيُّون» أنفسهم مفروزين عن الشعب لقداستهم! فيذكر الكاتب الأديب «عباس محمود العقاد» أن اسم «الفريسيُّون»: «مأخوذ من كلمة عبرانية تقارب كلمة (الفَرْز) العربية فى لفظها ومعناها، فهم (المفروزون) أو (المتميزون)...».

أمّا عن ظهورهم، فيذكر الخورى «بولُس الفغالى»: (تعود جُذور الفَرِّيسية العميقة إلى أيام «عَزَرْيا» و«نَحَمْيا» مع إعادة بناء الهيكل وأسوار «أورشليم»... ويبدو أنهم تأسسوا رسميًّا فى أيام المكابيِّين فى القرن الثانى قبل الميلاد). وكان الغرض الأساسى هو المحافظة على الشريعة والتمسك بها مع التقاليد التى تسلموها شِفاهًا. فكما ذكرنا: إن عصر المكابيِّين كان ثورة بسبب ما قام به ملوك «سوريا» التى تخضع لها «اليهودية» من إدخال العبادات الوثنية، وفرضها بالقوة على «اليهود»، مع تدنيس المقدسات.

وفى مصر الحلوة الحديث لا ينتهى...!

* الأسقف العام رئيس

المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسى