مَنْ «سوادى» مجلس النواب الجديد؟

عبد الرحمن فهمي الثلاثاء 19-01-2016 21:29

كانت الصحف قبل ثورة يوليو تنتظر افتتاح الدورة البرلمانية على أحر من الجمر لزيادة التوزيع، وبالتالى الإعلانات، فالقراء كانوا يعشقون قراءة تفاصيل ما يدور فى الجلسات بالتفصيل بقدر الإمكان.. فقد كانت جلسات مليئة بالمناقشات الجادة الحامية.. وكثيراً ما تحدث مفاجآت مذهلة، مثلاً فجأة تلقى مجلس النواب رسالة من السراى تطلب إصلاح اليخت «المحروسة»؛ لأنه قطعة من الأسطول المصرى التابع لوزارة الدفاع، وما حدث من مناقشات تستحق المتابعة.. فقد كانت المعارضة البرلمانية قبل الثورة فى منتهى الجرأة.. لا يهمها ملك ولا السفير البريطانى المسمى «المندوب السامى»، ولا أى جهة من الجهات، ولوجود الأحزاب كانت وجهات النظر مختلفة، والأصوات عالية، والكلام لا يخلو من اتهامات متبادلة.

ولعل من الجلسات التى شدَّت الناس حينما انفصل مكرم عبيد عن الوفد، وهو الرجل الثانى، وأخطر الأعضاء من كل الوجوه، فهو أقرب الأعضاء لمصطفى النحاس، وخطيب لا يجاريه أحد، وبعد كل خطبة رنانة تهز المجلس كان النحاس يرد عليه بهدوء، وبكلمات قليلة.. ولعل أشهر مواجهة حينما اتهم مكرم عبيد زوجة النحاس، السيدة زينب الوكيل، بأنها تلقت رشوة من سفير مصر فى لندن، عبارة عن فرير غالى الثمن.. اعترف النحاس بوصول الفرير، وطلب من المجلس أن يعطيه فرصة لإحضار الفرير غداً.. وكانت حكاية فى منتهى الغرابة.. لاقتناع الناس بنزاهة النحاس.. ولماذا سيحضر الفرير معه فى الجلسة القادمة؟!.. وانتظرت مصر كلها هذه الجلسة.. فإذا بالنحاس يحضر الفرير وعليه ختم المحل بلندن، وعليه رقم الفرير، ومعه فاتورة بنفس الرقم مدفوعة الثمن بتاريخ قديم.. واستأذن النحاس من المجلس أن يسمح لشخص ما بالحضور للإدلاء بشهادته.. كان هذا الشخص هو مدير جمرك الإسكندرية الذى أدلى بشهادته.. فبعد أن قرر إعفاء الفرير من الجمرك اتصل أحمد السقا، سكرتير النحاس، تليفونياً بالنحاس الذى رفض بشدة وتكلم معه قائلاً: «إذا كنت تحبنى بحق دعنى أدفع الجمرك»، وقد كان.. وقرر المجلس بأغلبية كبرى فصل مكرم عبيد من المجلس، وكان أول وآخر عضو يتم فصله فى برلمان مصر منذ عام 1924 حتى الآن.

■ ■ ■

وبمناسبة اعتبار المحررين البرلمانيين زمان من أهم محررى أى جريدة أو مجلة.. هل تعلم قصة «السوادى».. كان محمد السوادى محرراً فى جريدة البلاغ المسائية، وكانت جلسات البرلمان قبل الثورة مسائية... لذا كان عنده وقت كافٍ ليكتب الجلسات بطريقة مختلفة تماماً عما تكتبه صحف الصباح.. كانت هوايته أن يكتب هوامش حول الجلسة وأسراراً وخبايا لا يعرفها أحد غيره، وفى البهو الفرعونى، حيث يستريح الأعضاء يسمع بعض الكلام الذى يقولون عكسه داخل الجلسة.. وأشياء كثيرة من هذا القبيل.. أحبَّ القراء ما يكتبه «السوادى» بأسلوبه السهل الطريف الذى لا يخلو من التريقة.

اشتهر «السوادى» لدرجة أن بائعى الصحف كانوا ينادون «البلاغ السوادى».. وكانت الناس تُقبل على شراء البلاغ لدرجة- أحياناً- كان معها البائعون يخفون بعض الأعداد لبيعها بعد ذلك بضعف ثمنها.. وأحياناً فى الجلسات المهمة الشهيرة كانت الناس تنتظر جريدة البلاغ أمام باب المطبعة! هذا النجاح الكبير شجَّع «السوادى» أن ينشئ جريدة باسمه.. نجح فى البداية نجاحاً منقطع النظير، ثم دوام الحال من المحال.. كثرة إجازات المجلس، مع الحرب العالمية الثانية، وارتفاع ثمن الورق والحبر، أوقفت استمرار صحيفة «السوادى»، وأصدر لذلك مجلة «السوادى» حتى وفاته!!

ترى هل سنجد «سوادى» جديداً خلال هذا المجلس؟.. يا رب.

■ ■ ■

مرت الأيام

جاءت ثورة يوليو.. لم يكن فى البداية برلمان حتى عام 1957، وهى مجالس معينة أكثر ما هى منتخبة، انصرف الناس عنها، ولكن ظهر بديل مهم..

بدأت محكمة الثورة برئاسة عبداللطيف البغدادى، ووقف أمامها رموز العهد الماضى وتاريخ بلد مهم عريق.. لذا تابع الجمهور هذه المحاكمات.. انتهزت جريدة الأخبار الفرصة، وقام المرحوم أحمد لطفى حسونة بدور «السوادى»، فتابعه الناس، كل الناس، حتى إن جمال عبدالناصر كان حريصاً على قراءة تفاصيل المحاكمات التى كانت تستغرق صفحتين كاملتين بدون إعلانات كل ليلة عندما يعود إلى منزله فى المساء، ولما اكتسحت الأخبار السوق ألحقت جريدة «المصرى» المرحوم بكر درويش، أحد خبراء الكتابة السريعة المختصرة اختزالاً للمنافسة.. وإن كان الجميع كانوا قد تعودوا على طريقة أحمد لطفى حسونة، الذى كاد يأخذ شهرة «السوادى».. وإن امتازت الأخبار أيضاً بعمود يكتبه موسى صبرى، تحت عنوان «هوامش»، وهى نقط وتعليقات سريعة عن المحاكمة، وهذه الهوامش أدت إلى قرار بإيقاف موسى عن العمل، وبعد وساطة من النقابة وكبار الصحفيين والسياسيين، تم نقله إلى الجمهورية كمحرر فقط، لا يكتب أى مقالات.. ذكريات.