قال لـ«محمد نجيب»: ليس من السهل حكم مصر
كان يوم 26 يوليو 52 بالنسبة لفاروق يوماً حافلاً بالأحداث الكئيبة التى بدأت بفرض الجيش حصاراً عليه فى قصر رأس التين، وفى الصباح أقنعه على ماهر بضرورة التنازل عن العرش ومغادرة البلاد قبل السادسة مساء، حسب طلب الجيش، وبعد ساعات قليلة كان يوقع وثيقة التنازل. وقد ذهب بها إليه سليمان حافظ، وكيل مجلس الدولة، الذى فور انتهاء مهمته كتب ما حدث فى تقرير رسمى، كان يعرف أنه وإن بدا أنه يكتبه إلى رئيس الوزراء، على ماهر، إلا أن الحقيقة أنه كان يكتبه للتاريخ.
فى هذا التقرير يقول سليمان حافظ: «فى ضحى السبت 26 يوليو 52، وفى مصيف الوزارة عهدتم إلىّ- والكلام موجه إلى رئيس الوزراء- بصياغة وثيقة تنازل الملك فاروق عن العرش، فآثرت ألا أنفرد بهذا الأمر، واشتركت مع حضرة الدكتور السنهورى، رئيس مجلس الدولة، فى إعدادها. وكنا بين أن تصاغ فى صورة كتاب من الملك إلى رئيس الوزراء، أو فى صورة كتاب ملكى، فآثرت الأخرى. واستلهمنا أسباب الأمر من مقدمة الدستور. ثم عرضنا المشروع عليكم بحضور اللواء محمد نجيب، القائد العام للقوات المسلحة، والبكباشى جمال سالم من سلاح الطيران الملكى، وبعد مناقشة وتعديل قليل بناء على طلبهما أقررتم المشروع وأمرتم بنسخه على الورق المعد للمراسيم (أضاف جمال سالم إلى الوثيقة عبارة «ونزولا على إرادة الشعب»). وطلبتم منى التوجه إلى قصر رأس التين لتوقيع الأمر من الملك.. واستقللت سيارة من حرس الوزارة منفرداً إلى قصر رأس التين. وفى طريقى إليه شاهدت بطارية من مدفعية الميدان الثقيلة أمام ثكنة خفر السواحل بالأنفوشى مصوبة مدافعها إلى القصر وعلى استعداد للعمل».
ويحكى سليمان حافظ تفاصيل لا داعى لها قبل دخوله إلى صالة فسيحة فى وسطها منضدة كبيرة من الرخام الأسود المموه باللون الأبيض: «وفى محيط الصالة مقاعد كبيرة تتخللها أخرى صغيرة أجلسنى الأميرالاى أحمد كامل (أحد مرافقى فاروق) على أحد المقاعد الكبيرة. وقال لى الأميرالاى إن الملك قادم لرؤيتى، وإنه له أمنية يريح خاطره أن تتحقق، فقد اعتقل رجال الجيش أنطون بوللى (متولى الشؤون الخاصة لفاروق) والأميرالاى محمد حلمى حسين (قائد المركبات الملكية والذى أصبح من أهم رجال الحاشية) عند خروجهما من القصر صباح اليوم، وبوللى عزيز على الملك، إذ يلازمه منذ الطفولة، وقد وعدته أن أتوسط فى هذا الشأن. ومر حوالى ربع ساعة وأنا جالس فى مكانى، ثم دخل الملك وهو يرتدى اللباس الصيفى لأدميرال البحرية، وقصد المنضدة وسط الصالة، فنهضت عند رؤيته وقصدتها كذلك حتى التقينا فى جانب منها، فصافحنى وأخرجت وثيقة التنازل من غلافها وقدمتها له فتناولها سائلاً عما إذا كانت محكمة الوضع من الناحية القانونية. فقلت إننا استلهمناها من مقدمة الدستور. وكان الملك يبدو هادئاً، لكنى لاحظت من سرعة خطواته ومن سعلات قصيرة سريعة كانت تنتابه عند مجيئه أنه كان فى حالة انفعال عصبى يعمل جهده للسيطرة عليه. وعاد إلى قراءة الوثيقة، ثم تناول قلماً من جيبه وقرأها مرة أخرى كلمة كلمة، وقال: ألا يمكن إضافة كلمة (وإرادتنا) بعد عبارة (ونزولاً على إرادة الشعب)- (وهى الجملة التى كانت أضيفت بناء على اقتراح جمال سالم)، قلت لقد وضعنا نزولكم عن العرش فى صورة أمر ملكى. قال تريد أن تقول إن الأمر الملكى ينطوى على هذا المعنى؟ قلت: نعم. قال: فليس إذاً ما يمنع من إضافة وإرادتنا. فقلت: إننا لم نصل إلى الصيغة المعروضة عليك إلا بصعوبة. قال فى اهتمام: إذن فقد كانوا يريدون منى أن أوقع ورقة أخرى؟ قل لى يا بيك ماذا فيها؟ قلت: لم أطلع عليها. قال: أنت تمسك عن ذكر ما فيها حتى لا تجرح شعورى لكننى أعدك ألا أتأثر مما أسمع. فأكدت له بشرفى أننى لم أطلع عليها، فوقع الأمر الملكى.
ثم قال: لعلك تقدر الظروف فتلتمس لى العذر فى أن التوقيع لم يكن كما أود ولذا سأوقع مرة أخرى. ثم وقع فى أعلى الوثيقة، وهنا اعتذرت عن عدم إمكانى الحضور إليه بغير الملابس البيضاء التى كنت أرتديها، وأردت أن أهون عليه الأمر، مشيراً إلى قضاء الله والرضا به، فقال لا بأس لا بأس بلهجة فيها من الأسى والأسف بقدر ما فيها من حزن لاح على وجهه. واقترب الأميرالاى أحمد كامل منا، وقال للملك على مسمع منى إنه حدثنى فى شأن بوللى والأميرالاى أحمد على حسين، فكرر الملك الرغبة فى الإفراج عنهما. وسألته: هل من رغبة أخرى، فقال إن لديه فى الخارج من المال ما يكفيه لعيش عيشة بسيطة ولكنه يرجو لو بقيت أمواله فى المملكة المصرية على حالها حتى تؤول بالميراث إلى أولاده، فإن تعذر فإنه يود أن توزع عليهم من الآن بنسبة حصصهم الميراثية، فوعدته بأن أعمل بقدر المستطاع على تحقيق هذه الرغبة».
فى تمام الساعة السادسة مساء، حسب الموعد، استقل فاروق اليخت «المحروسة» وكانت قد سبقته زوجته ناريمان والأمير أحمد فؤاد تحمله مربية إنجليزية، ومعها أيضا بنات فاروق من فريدة «فريال وفوزية وفادية». وكان قد حضر لوداع فاروق والدة ناريمان، أصيلة صادق، وأختا فاروق، فوزية وفايزة، وعلى ماهر، والسفير الأمريكى كافرى، وبعض ضباط الحرس. وعزف السلام الملكى، وبعد لحظات من تحرك «المحروسة» وصل الفريق محمد نجيب متأخراً بسبب زحام المرور، وعدم معرفة السائق بالطريق. فأخذ نجيب لنشاً حربياً دار دورة كاملة كما تقضى التقاليد البحرية، «ورأيت الملك واقفاً على سطحه ينظر إلينا- والكلام لمحمد نجيب- فحييته التحية العسكرية أنا ومرافقى من الضباط لكنه لم يرد التحية، وأعتقد أنه لم يتنبه إلينا أو عاكسه ضوء الشمس عند الغروب. وصعدت إلى المحروسة يتبعنى أحمد شوقى وحسن الشافعى وجمال سالم وإسماعيل فريد. وكان الملك ينتظرنى. أديت له التحية فرد عليها. وبعد لحظات صمت قلت: أفندم.. أنت تعرف أننى كنت الضابط الوحيد الذى قدم استقالته فى عام 1942 قال: نعم أتذكر (كان محمد نجيب قد أعلن استقالته من الجيش احتجاجاً على ما فعله السفير البريطانى ومحاصرة قصر عابدين، ثم أقنعوه بالعدول عنها) قلت: كنا مخلصين للعرش فى عام 1942 ولكن أشياء كثيرة تغيرت منذ ذلك الوقت. قال: نعم أعرف أن أشياء كثيرة تغيرت. قلت: أنت تعرف يا فندم أنك السبب فيما فعلناه. وجاءت إجابة فاروق محيرة جدا وشغلتنى طيلة حياتى فقد قال: أنتم سبقتونى بما فعلتوه فيما كنت أريد أن أفعله. ولم أجد شيئاً أرد عليه فقدمت له التحية كما فعل الآخرون وسلمنا بأيدينا على بعضنا البعض. وقال فاروق: أرجو أن تعتنى بالجيش فهو جيش أجدادى وآبائى. قلت: أعرف أن الكولونيل سليمان الفرنساوى هو الذى أسسه والجيش الآن فى أيد أمينة.
ولاحظ فاروق أن جمال سالم يحمل عصاه وهو يقف أمامه فتوقف عن الحديث، وأشار إليه قائلا: ارم عصاك، وحاول جمال سالم أن يعترض لكنى منعته من ذلك فألقى عصاه ووقف بصورة تنم عن اللامبالاة. وعاد فاروق للحديث معى فقال: إن مهمتك صعبة جدا، فليس من السهل حكم مصر.
وكانت هذه آخر كلمات فاروق. وانتهى الوداع فى احترام ووقار. ثم وقف الملك مع على ماهر والسفير الأمريكى، جيفرسون كافرى، وقال: والآن يجب أن أمشى. وغادر فاروق مصر ولم يعد إليها إلا جثماناً تم دفنه فيها..