استيقظت ميار من النوم، فبدت لها الدنيا رائعة الجمال. تمطت قبل أن تغادر السرير وقد بدا على وجهها الطفولى أبلغ آيات الاستمتاع.
دست قدميها الصغيرتين فى خف ملون، ولم تنس أن تدير الموسيقى التى تحبها دون أن تخشى لوم ماما التى تؤنبها دائما على ارتفاع الصوت.
إنها وحدها فى ذلك البيت الصغير الأنيق.
ميار فى الثانية والعشرين من عمرها. تخرجت فى الكلية لتوها. ويممت وجهها صوب المستقبل السعيد.
صبت كوب الماء المغلى فى الكوب الخزفى الأنيق الذى تفضله. وارتفعت رغوة النسكافيه سميكة ولذيذة تنبئ بالمذاق الدسم. فبدت لها الأرض أفضل كوكب ممكن للحياة.
هذا الصباح ليس كأى صباح. إنه اليوم الذى تحققت فيه أحلامها كاملة. تبدأ عملها فى مؤسسة الإغاثة الدولية التى حلمت بالعمل بها على الدوام. وتحيا فى العاصمة وحدها بعد أن ضاقت مدينتها الصغيرة «المنصورة» على أحلامها. وتستقل بنفسها كما كانت تحلم دائما. لشد ما كانت الشهور الماضية صاخبة، ومليئة بالبكاء والصراع. لم يستوعب والداها فكرة سفرها للقاهرة وإقامتها وحدها. تقاليدهما المحافظة استهولت ذلك، والرعب على تلك الطفلة الصغيرة الساذجة التى لم تكبر فى عيونهم قط. إنها ما زالت ميار الصغيرة، فى حجم الدمية. ولكنها استطاعت بسلاح البكاء والامتناع عن الطعام أن تنتزع حريتها وسكنت فى الزمالك قريبا من مؤسسة الإغاثة الدولية التى حان يوم عملها الأول فيها هذا الصباح.
فى الأيام السابقة كفت فيها عن مطالعة النت ومشاهدة التليفزيون. ولو قامت الحرب العالمية لما أحست بها، إنها لا تعبأ الآن إلا بتحسين لغتها وإجادة كل البرامج الكمبيوترية التى يتطلبها عملها ويؤمن لها المستقبل السعيد. وإنها الآن لترى نفسها فى الصورة التى تمنتها دائما. فتاة مستقلة تعتمد على نفسها، تسكن فى أرقى مناطق القاهرة وأكثرها هدوءا، لتعمل فى مؤسسة الإغاثة العالمية. وتنخرط فى أحلام اليقظة، فترى نفسها وهى تغيث المنكوبين. سالت دموعها وهى تتصورهم يحلفون بحياتها، وعندما يحل السلام فى أوطانهم المنكوبة ويعودون لديارهم المهجورة فإنهم يجتمعون حول دفء الموقد يتحدثون عن هذه الفتاة الرائعة التى تُدعى «ميار». تسافر من بلد لبلد، ومن عاصمة لعاصمة، تجوب قارات العالم الخمس فى عملها الإنسانى. تقطن الفنادق وتنام فى الطائرات. لم تعد ميار يا ماما هى تلك البنت العبيطة التى تخشين عليها من ركوب التاكسى بمفردها.
خرجت ميار إلى الطريق. استنشقت الهواء البارد باستمتاع. ركبت التاكسى إلى مقر الإغاثة العالمى وكلها استبشار وتفاؤل بالمستقبل. لكن لشد ما أدهشها أنها وجدتهم ينقلون المتاع وكأنهم يخلون المقر. قدمت ميار نفسها إليهم فنظروا إليها فى دهشة. وتساءلوا عن سبب مجيئها؟ ألم تشاهد التليفزيون أو حتى تطالع الأخبار فى النت؟
وحين أجابتهم ميار أنها انقطعت عن العالم الخارجى فى الأيام السابقة أخبروها أنها– على حظها- قد انتهت جميع الحروب. وأن السلام قد عمّ الأرض فجأة لسبب مجهول. وأن قادة إسرائيل بكوا بالدموع الغزيرة وأعادوا الفلسطينيين المُهّجرين إلى ديارهم وعادوا بالباخرات إلى أوروبا! وأن داعش أبدت ندمها وقبلت رأس كل المُهجّرين. وتوقف الصراع فى سوريا والعراق وبورما ودارفور وكافة مناطق العالم المنكوبة بالحروب. وبالتالى لم تعد هناك حاجة إلى منظمات الإغاثة من الأساس.
وفى القطار التالى عادت ميار إلى المنصورة، وقد بدا على وجهها الطفولى كل بؤس العالم. هذا السلام الذى جاء على حظها! حرام! والله حرام.