يحزنني أن أرى شبابا تعلموا ليصبحوا مهندسين وأطباء أهلوا أنفسهم وأهلهم مجتمعهم كي يصبحوا قاطرة تجر ركبه إلى التنمية والصعود، وينتهي بهم الحال إلى أجساد يائسة تجر عربات البطاطا والفول المدمس وشطائر السكلانس تحت عنوان الكفاح، وبديلا عن الجلوس على المقاهي ومشاهدة العمر الذي يضيع دون هذا وبلا ذاك.
ويحزنني أكثر أن تضطرنا الظروف إلى احترام هذا الوجه من وجوه الاجتهاد لأننا في النهاية بين خيارين كلاهما مر، فإما أن نقبل أن تتدنى عقول من درجة العلوم التطبيقية إلى درجة البطاطا، وإما أن نقنع بأن تتدنى إلى درجة البطالة الكاملة.
لا أظن أن من حق المجتمع أن يفخر باضطرار أحد أبنائه إلى اتخاذ مسار غير المسار الذي استثمر فيه ماله ووقته وطاقة أبنائه، فهي في الحقيقة شاهد نشط على فشل هذا المجتمع من عدة زوايا.
الزاوية الأولى هي أن هذا المجتمع اتجه في الأصل إلى استثمار غير محسوب لإعداد أحد أبنائه للقيام بدور لا يحتاجه، أو لا يعرف أو لا يهتم بكيفية توظيفه في سياقه الاقتصادي والتنموي.
والزاوية الثانية هي أن المجتمع يطرح بديلا يحتفل به لحل المشكلة لا يتناسب بالمرة مع مقدار ما بذله في الأصل من نفقة وعمل لإنشاء المشكلة ذاتها، فيحتفي بإعلامه الرسمي والشعبي بحالة «الكفاح الشريف» مستهجنا «قعدة القهاوي» وكأنه يزف إلى ضحايا سوء تخطيطه وإدارته حلا وحيدا يلومهم إذا لم يقبلوه، ويصمهم بأنهم كسالى يفضلون البطالة على هذا الكفاح الشريف.
ولا شك بالطبع أن البطاطا خير من البطالة، لكن لا شك أيضا أن عمل الشاب في اختصاصه الذي أعد من أجله خيرا له وللمجتمع من كليهما.
وعليه فإن لوم من لا يقبل بحل البطاطا وتأنيب ضميره، لا يمثل أكثر من إزاحة للمسؤولية من على كاهل المجتمع المذنب إلى كاهل الشاب الضحية.
فحتى لو قام شاب تدفعه الحاجة للمال بإنشاء مشروع ضئيل يمكن أن يقوم به أي شاب أمي وافد من الأرياف ممن قصر المجتمع في تعليمهم بشكل كامل، فهذا لا يعني أنه أخلى مسؤولية المجتمع تجاه حاجته للعمل، أو تجاه النفقة المهدرة في تعليمه وإعداده لدور لا يقوم به، ولا تجاه احتياجه الحقيقي لطاقة هذا الشاب المهدرة في المشروع الضئيل، بينما لم تحقق الدولة حاجتها من الأطباء والمهندسين والمعلمين لتضحي ببعضهم لصالح مشروعات البطاطا والسكلانس.
ولا أحسب الحفاوة التي يستقبل بها المجتمع هذه المشروعات الضئيلة، حجما ونوعا، إلا احتفالا زائفا بتخلصنا من جسم الجريمة وجثة الضحية في ضربة واحدة، وبعمل تطوعي من الضحية نفسها.
وعلىّ في هذا المقام أن أقرر مسلمة تحتاج دائما إلى التقرير، ما دمنا في بلاد تجادل في المسلمات وتفرز ضمائر المتعاملين بها، وهي أنني أعني بالمجتمع كل شيء يقع داخل حدود هذه البلاد، فأعني الدولة بهيئاتها وكياناتها الرسمية والحكومية، وأعني كذلك المؤسسات غير الرسمية كالأسرة والمؤسسات التعليمية الخاصة.
وعندما أتحدث عن النفقة التي بذلها المجتمع لإعداد هؤلاء الشباب، أقصد ما أنفقته الدولة من الميزانية العامة على هذا الإعداد، وما أنفته أسر هؤلاء الشباب على تعليمهم لنيل شهادات ستبقى معلقة على جدران المنازل عندما يضعها الشاب وراءه ليضع أمامه عربة البطاطا الساخنة.
وصحيح أن كثيرا من مشروعات المطاعم والمواد الغذائية بدأ صغيرا بحجم عربة بطاطا، ثم توسع ليصبح سلاسل عالمية لها ميزانيات تتجاوز ميزانيات دول متوسطة، لكن هذا لا يعني أن كل عربة بطاطا بذرة لعلامة تجارية ستصبح قيمتها بالمليارات ذات يوم.
أرى أن علينا أن نحمد لمن اتخذوا الخيار الصعب إصرارهم على الحياة والصعود ولو من السلالم الخلفية، وأرى أن علينا أن نلوم أنفسنا جميعا كلما رأينا واحدا منهم يجر شيئا غير قاطرة التنمية التي كان يجب أن يجرها.