1- (الدرس الذي لا يفهمه الحكام)
زي النهارده من 39 سنة كان عندنا برلمان، وحزب حاكم اسمه «حزب مصر»، وكان عندنا رئيس مؤمن مزهو بنصر أكتوبر وعلاقة الغرام ما بعد شهر العسل مع أمريكا، وطبعا كان عندنا حكومة (احنا طول الوقت عندنا حكومة)، المهم في هذه الحكاية أن وزيراً من تلك الحكومة وقف أمام البرلمان وألقى البيان الذي لا يموت أبداً... بيان «اربطوا الأحزمة»...!
ولما كان السادات قبلها بسنتين فقط يغازل الشعب بأحلام الرخاء، ويوهم البسطاء بحياة النعيم التي تنتظرهم بعد تطبيق ورقة أكتوبر وسياسة انفتاحه الاقتصادي، فقد حطم بيان الدكتور القيسوني أحلام الشعب المخدوع. كان الدكتور عبدالمنعم القيسوني آنذاك نائبا لرئيس الوزراء (ممدوح سالم) للشؤون المالية والاقتصادية، واستقر عليه الرأي ليلقي بيان رفع الدعم عن معظم السلع الأساسية في حياة الناس، وكلها تتعلق بالتموين والطاقة: العيش.. الرز.. الشاي.. السكر.. السولار.. البنزين... إلخ.
كانت تقارير أجهزة الأمن القومي ومباحث أمن الدولة قد حذرت بشدة من هذه الإجراءات في اجتماع يوم 13 يناير 1977 وجاء في أحد التقارير أن «أى إجراء تضرب به السلطة (بطون الشعب) سيؤدى إلى ثورة شعبية»، لكن الحكومة لم تهتم فتوجيهات سيادة الرئيس المؤمن ركزت على تلبية مطالب صندوق النقد والبنك الدولي لخفض عجز الموازنة، ولم يكن أمام قادة البلد إلا الطاعة، ووافقت الحكومة وحزب مصر الحاكم (النسخة الأولى من الحزب الوطني)، وأعلن القيسوني بيان التبعية لمؤسسات الرأسمالية الدولية.
باتت النار ليلتها مشتعلة تحت قِدر الفقراء، حتى وصل (القِدر) في الصباح إلى درجة الغليان، فاندلعت أخطر ثورة شعبية في تاريخ مصر المعاصر، ثورة 18 و19 يناير 1977 التي نبهت السادات لضرورة حكم الشعب بقبضة أمنية لا تسمح بتكرار ثورة الشعب، كما فكر في القضاء على اليسار تماما، ففتح الطريق أمام الإخوان وتيارات الإسلام السياسي لاحتلال الجامعات، والمؤسسات النقابية، والجمعيات الأهلية، والمساجد والزوايا الصغيرة، والشوارع والحواري، و...
وفي ظل موجة الجهاد ضد الشيوعين الملحدين في أفغانستان، تسلحت هذه القوى (المدعومة من مصر والسعودية وواشنطن رأسا) بالمال والسلاح، وتجاوزت طموحاتها فكرة الدعوة والإصلاح الديني والأخلاقي إلى طموح إمبراطوري لابد أن يبدأ بالقضاء على مشاريع التحديث العلمانية الكافرة من أجل إعادة الخلافة الإسلامية.
2- (سؤال عند مفترق الطريق)
أفكر أحيانا في خطوة السادات بعد صدمة 18 و19 يناير: هل كان يدرك أنه يستدرج مصر (متعمدا) إلى هذا المصير الممزق الرث الذي وصلت إليه؟ وهل كان ذلك نتيجة مؤامرة دولية مع أمريكا أو إقليمية مع السعودية ودول النفط؟ أم أنه كان مدفوعا فقط بهاجس تمكين حكمه والدفاع عن قصره في مواجهة العمال والفقراء الذين تجرأوا على الثورة دفاعا عن معيشتهم، وسياسات العدالة الاجتماعية التي كانت تتآكل أمام أعينهم تحت أقدام الطبقة الطفيلية الجديدة الصاعدة في الاقتصاد، وموجات التخريب والتغريب التي أطاحت بالنموذج المصري في كل شيء، فالحديث عن مسخ الهوية لم يقتصر على مشاريع التنمية وتوجهات المجتمع الكبرى في السياسة والاقتصاد والثقافة، لكنه طال الملابس واللكنة، وطريقة المعاملات الإسلامية، وحتى المدرسة المصرية في تلاوة وتجويد القرآن.
3- (من يحاكم الرئيس؟)
السؤال لا يخص شخصا بعينه، لكنه سؤال عن الحساب.. أليس الحساب قيمة إنسانية وإلهية أيضا؟.. أليس له أهميته في الأرض وفي السماء؟!
لا أظن أننا سنختلف كثيرا على قيمة الحساب من المقهى إلى الآخرة، ولا يعني أن السادات تعرض لإعدام علني برصاص الجماعات التي دعمها وفتح لها المجال، إنه قد تلقى جزاءه وانتهى الأمر، فالاغتيال فعل بغيض لأنه ليس نتيجة محاسبة قضائية مكفولة بما اتفق عليه المجتمع من قواعد وقوانين، لكنه إعمال لفريضة غائبة من وجهة نظر جماعة قليلة تسعى لفرض قواعدها وأحكامها على أغلبية مبعثرة متذرعة بأن هذه الأحكام هي أحكام السماء!
لا أظن أن الأمة استفادت من اغتيال السادات في شيء، بالعكس أضيرت أكثر وأكثر، لأن إزاحة الشخص دون محاكمة نحاسبه فيها على ماحدث، جعلنا نجهل ما هو المفيد في فترة حكمه وما هو الضار؟.. جعلنا نتحزب ونختلف ونتشاجر على عواطف، ورؤى شخصية، ومعلومات مجتزأة، تدعمها حملات إعلامية وسياسية ملونة ومضللة في اتجاه التأييد وفي اتجاه التنديد أيضا، لكننا حتى الآن لم نفكر بشكل عملي محترم في محاسبة حاكم، ليس بغرض التنكيل أو الانتقام، ولكن بغرض التعلم ومعرفة الأخطاء لتجنبها في المستقبل، وأظننا أحوج ما يكون إلى هذه الثقافة من غير ربطها بغريزة الانتقام أو الخوف من الخازوق والمشنقة، فالحساب هو أول خطوة في بقاء الضمير حياً وفاعلاً وقادراً على تصحيح المسير.
4- (الدرس الذي أهملناه نحن)
أن نحاسب أنفسنا كل الوقت، وإذا لم يتيسر فلنحاسب أنفسنا كل ليلة، ونحن نضع رؤوسنا على المخدة لنسلم النفس لخالقها (مؤقتاً أو أبداً) فلا أحد يعرف بالقطع موعد الحساب الختامي... أظن أن الفريضة الغائبة في مجتمعنا هي فريضة الحساب.. محاسبة أنفسنا ومحاسبة الحكام بوعي وعدل، فالوعي يهدينا للمستقبل، والعدل أجمل وأبقى وأكثر فائدة من الانتقام.
أيها الحكام: لا نريد أن نقتلكم، فقط نريد أن نحاكمكم، فهذا أضمن وأأمن لنا ولكم، نرجو التفهم والمعاونة.
tamahi@hotmail.com