هل يمكن أن يكون رمزُ الصلاحِ مصدراً للفساد؟!
أو أن تصبح منارةُ الإيمان منشأً للكفر؟!
وبعبارة أكثر مباشرةً وصدمةً: هل يمكن- عقلاً- أن يكون المسجد مصدراً للفساد والكفر؟!
الإجابة نعم!!!
قبل أن تهتز نفسياً.. أو تتهم أحداً بالهرطقة.. فلنتذكر أن ربنا علمنا أن الأمور بمقاصدها وليس برمزيتها..
ولأن المسجد معنى ورسالةٌ قبل أن يكون مبنى.. فإذا جافى معناه وحاد عن رسالته كان بنص كلام الله فيه مسجداً ضراراً.. أى ضاراً مفسداً.. لا نافعاً مصلحاً.. وكان الإصلاح فى حقه هو فى إزالة أثر ضرره.. بل فى إزالته ذاته.. امتثالاً للوحى.. كما أمر وفعل صلى الله عليه وسلم!!
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (التوبة ١٠٧)
إذا كان الأمر هكذا فى شأن المساجد.. فما بالنا بشأن كل المؤسسات القيمية الأخرى؟.. والتى هى معانٍ قبل أن تكون مبانى.. الأصل فيها إقامة العدل فى الناس.. وضمان حرياتهم وصون كرامتهم وإقامة إنسانيتهم.. ما بالنا بشأن الدساتير والبرلمانات والحكومات.. بل والدولة ذاتها وهى المؤسسة الأم؟!
يقيناً وبنفس القياس كل مؤسسة حادت عن مقاصدها.. بل- والأنكى- بُنيت لخيانة أصل مقاصدها.. هى مؤسسة ضرار.. ومآلها الزوال إن لم يكن امتثالاً لـ«وحى».. فسيكون امتثالاً لـ«وعى».. وهو أرقى مآلات الوحى!!
وعليه وفى وسط الغبار الثائر حول البرلمان الحالى.. وما جاء فى شأنه من لغطٍ حول كونه وُلِدَ سفاحاً من رحم أجهزة السلطة التنفيذية.. أو أنه تمت هندسته سياسياً وجينياً لضمان نقاء جينات التبعية والانبطاح.. أو أنه جاء بذهب المعز وسيف الابتزاز مع من استجابوا مرشحين كانوا أو ناخبين.. أو أنه حتى وإن غاب عنه التزوير الإجرائى.. بقى تدليس الإرادة فيه حاضراً.. وفى وسط الصخب الدائر على منصاته كما شاهدنا فى جلساته الأولى.. والتى قد تُفقده بعضاً من شرعيته..
بقى للبرلمان الوليد أن يقرر فى شأن نفسه.. إما أن يكون برلمان «ضرورة» أو برلمان «ضرار»..!
وخبيئة الأيام ستسفر عن نفسها بأسرع مما نتصور.. والتى نرجو أن تشى باستفاقة للمؤسسة التشريعية واستقامة على مقاصدها!
ولكى نتواصى بالعقل والعدل أيضاً علينا أن نُذَكِر أنفسنا ونُذَكِّر النواب «الممثِلين»- ممثلى الشعب فى البرلمان أقصد- بأنه وإن كان البرلمان ليس «للكيد السياسى» باسم المعارضة.. فإنه يقيناً ليس «للانبطاح السياسى» باسم الاصطفاف..!
وبأنه وإن كان سلطة مكملة لمثلث السلطات القديم التنفيذية والقضائية كسلطة تشريعية.. فإنها سلطة «ندُُ» شريك وليست تابعا مأمورا من أى من السلطتين الأخريين..!
هو سلطة مُشَرِعةُ مُراقِبة.. لا تؤمَرُ من رئيس ولا من حكومة.. ولكنها تؤمَرُ من شعبٍ وتُراقَب منه.. وبغير ذلك فقدت عِلّةَ وجودها وصارت مؤسسة ضراراً.. حتى وإن أنفق أعضاؤها سلعتهم بالحلف الكذب..!
وإن كانت الندية لا تعنى الصدام.. والرقابة لا تعنى التعنت.. فالشراكة والتعاون بين السلطات لا تعنى أن يعطى من لا يملك لمن لا يستحق..!
ولهذا نرجو ألا يمر مرور الكرام.. قول هذا النائب أو ذاك إنه جاء لدعم الرئيس.. متدثراً بادعاء دعم الدولة.. فإن هذا النائب إن كان داعماً للدولة بحق من موقع برلمانى.. فعليه أن يراقِب أداء الرئيس أو بعبارة أدق «المسؤول الأول» وإدارته.. ويعينه بتنقيح التشريعات وانضباطها لصالح الناس.. وبغير ذلك يكون ناكثا بأمانة تكليفه ممن انتخبوه حتى وإن قَصَّرُوا هم فى فهم دوره الواجب..!
ونرجو ألا نغفل تبعات ثرثرة هذا النائب أو ذاك.. أنه جاء ليهدم دستوراً انتُخِبَ على أساسهِ.. مرة أخرى ممالأة لمؤسسة تنفيذية.. هو فى الأصل قسيمها فى السلطة.. ورقيباً عليها.. وضابطاً لأدوات حكمها التشريعى.. ففى ذلك فقدان لجوهر الثقة الذى به يفقد البرلمان شرعيته..!
ونرجو ألا نرى أن فى برقيات تأييد المجلس ودعمه ومديحه للرئيس والحكومة أمراً عادياً لا يتوقف عنده أحد.. بل هو أمر جدُّ خطير.. دلالته أن البرلمان قد انحاز لمن جاء لمراقبتهم وحاد عن أمانته تجاه من أولوه ثقة الوجود والبقاء..!
أعرف أن النواب الممثِلين (للشعب) بشرُ.. لديهم طموحاتهم.. وثأراتهم.. ورغباتهم فى التحقق المالى والمهنى التى تدفعهم للتزلف..
وأعرف أن فيهم كذلك التائه غير المؤهل غير سيئ النية..
وأعرف أن كثيرا منهم لا يعرف للبرلمانات دوراً ولا للنائب وظيفة.. غير ما رُبى عليه أو سمع عنه أو رآه على مدار ستين سنة أو يزيد.. من كونها تجمعات مصالح مُدَجنة.. تتعبد حاكماً وثناً.. تحيله هى إلى «نصف إله» حتى بأكثر مما يريد هو.. وترى فى الشعب غِطاءً إجرائياً لتبرير الوصول لكرسى البرلمان الأثير..!
حتى وإن كان ذلك مبلغهم من العلم أو رغبة بعض دوائر السلطة أن يكون ذلك سقف العلم والفعل.. فإن ذلك ليس مقبولاً ولا مكفولاً الآن.. بعد أن عُمِدَّت كراسى ذلك البرلمان بدماء شهداء ذكية وبنور أبصار مصريين أنقياء كان كلُ أملهم أن يحيوا أحراراً كرماء فى كنف دولة عادلة..!
وإلى واهمى الصوت الواحد باسم الاصطفاف وإلى مغتالى أعراض وأحلام الناس.. تلك ليست من صفات نائب عن شعب ثار مرتين من أجل أن يحيا حياة كالحياة..!
وشعب كهذا حتى وإن تغافلتم عن إعراضه عن انتخابات أتت بكم من أبواب مال سياسى أو دعم سيادى.. فنُذُر العذر الباقية لديه أضحت قليلة.. ولن يبقى لكم إلا أن تعتدلوا أو تعتزلوا..!
وإلى كل من تصوروا أنهم قتلوا أحلام الناس.. بل ومَثَّلوا بها وهم يحتقرون أمل الناس فى غد أفضل.. قبل أن تُمعِنُوا فى العزةِ بالإثم.. اهدأوا قليلا واسألوا أنفسكم عن أصل الأمور لعلها تعينكم على الاستقامة قبل فوات الأوان.. اسألوا أنفسكم..
من يملك مصر؟!.. ومن له أن يملكها؟!
من يملك مصر وطناً؟! ومن يملك مصر دولةً؟! ومن يملك مصر سلطةً؟.. ومن يملك مصر حكماً؟!
مصر «وطنُ» يملكه كل أبنائه.. ومصر «دولة» معنى وجودها مرهون بأمانة قيامها على شؤون مواطنيها، وعلى كونها دولة رعاية أكثر من كونها سلطة جباية.. ومصر «سلطة» «شرعيتها» فى «أهليتها» قبل سلامة إجراءات اختيارها أو عاطفة الارتباط بها.. سلطة يملكها الشعب ولا تملك الشعب..!
مصر وشعبُها ليسا متاعاً يُوَرث لمؤسسةٍ.. أو لأجهزة دولة.. أو لجماعات مصالح.. ولا لأسر حاكمة، وبغير ذلك يكون قد جُرنا وتجاوزنا وافتأتنا على أصل حقوق كفلها الله للناس..َ
و«التوريث السياسى» ليس أقل شراً من «التوريث العائلى».. والذى ذهب بالعروش قبلاً..!
مصر لن تحيا إلا حين يوسد الأمر لأهله.. ويكون مَرَدُ الحَلِ والعَقدِ والتوجيه والأثر لكلٍ فى مجاله..!
لسنا بدعاً من الأمم.. ففى إقطار الدنيا التى اعتدلت واستقامت ونهضت.. تبقى الرئاسة والملك وظيفةُ سياسية عليا.. فيها المسؤولية الأرقى والأقسى للقيام على تسيير حياة الشعوب.. وتبقى للشعوب قياداتها وزعاماتها «الروحية والفكرية والسياسية» والتى تشكل وجدان تلك الشعوب وأذواقهم وإبداعهم.. ويبقى استقلال الزعامات شخوصاً ومؤسساتِ.. أمانة للمجتمع فى عنق قياداته وزعاماته..!
نهوضُ مصر من عثرتها التى طالت.. مرهون بحركة إبداع و«تنوير» حرة.. وبزعامات فكرية مُلهِمة وغير تابعة..و بـ«أزهرٍ» مستقل راشد.. وببرلمان «مؤهل» مستقل ند شريك فى إدارة شؤون البلاد إنشاءً ورقابةً وتشريعاً.. وبمؤسساتِ تنفيذية مؤهلةِ منضبطة تعرف حدود أدوارها ولا تتغول..!
بغير ذلك لن يكون لمصر أمل فى بناء دولة «الضرورة».. نحو دولة الرفاه.. ولن تأمن مصير الدولة «الضرار»..!
تلك كما يقول عبدالرحمن الكواكبى «كلمة حق وصرخة فى واد».. نرجو ألا تذهب اليوم مع الريح.. حتى لا «تذهب غداً بالأوتاد» كما يقول صاحب طبائع الاستبداد أيضاً..
فكروا تصحوا..