كنت أتصور وقتها أنني رجل الله على الأرض، والجنة لي والنار للآخر، هكذا قالوا لي عندما سألتهم عن مصير صديقي الإنجيلي وأنا صغير، لأسمع خطابًا حادًّا عن الطائفة الإنجيلية انتهى بمصير قاسٍ لصديقي «جهنم وبئس المصير»، تكونت الصورة داخلي، وكلما قابلت صديقي تذكرت نهايته.
سمعت أحد خدام الكنيسة يقول: «الإنجيليون بيرقصوا في الكنائس ولا يحترمون بيت الله»، وبتلقائية الأطفال كنت كلما أمر أنا وأصدقائي على جمعية إنجيلية بجوار كنيستي ألقي الطوب عليها مع ترديد بعض عبارات الإهانة.
.................................
بعد جلسة طويلة كانت الضحكات تعلو فيها مع زملائي المسلمين بالمدرسة، وفجأة وبدون مقدمات قال صديقي المسلم: «أنا بعزك يا جرجس حرام بجد تخش النار»، ومر العمر وما زالت تلك الكلمات في عقلي مصحوبة بتساؤلات: «كيف لطفل لم يتجاوز عمره 13 عامًا، يقول لصديقه المسيحي إن مصيره النار؟.. هكذا تعلم في منزله ومسجده مثلما تعلمت وقالوا لي عن صديقي الإنجيلي».
آخر مرة قابلت هذا الصديق، كان ملتحيًا وتعمّد تجاهلي، كانت نظراته الحادة كفيلة بتوصيل الرسالة «لقد صنعوا منّى متطرفًا»، «كيف تحول صديق الطفولة إلى عدو؟» سؤال لم أحتج إلى إجابة له، لأن صديقي هذا أجاب عليه عندما زرعوا في عقله الصغير وقتها أنه أفضل من الآخر.
.......................
صنعوا منّا متطرفين، لأن بداخلهم تطرفًا، والآن يقنعوننا بأنهم يقودون تيار تجديد الخطاب الديني…
خطاب التكفير والتحقير من الآخر، لا يميز دينًا عن دين، أو طائفة عن طائفة…
مشكلتنا ليس في الأديان أزمتنا فيمن وضعوا أنفسهم وكلاء عن الله.
..............................................................
سألت خادم كنيستي.. لماذا أدرس في فصول إعداد الخدام مادة «إسلاميات»؟ فأجابني بفخر: «حتى تثبت لتلاميذك صحة دينك، وترد على أي مسلم يشوه دينك»، ربما تكون إجابة منطقية، لكنها خلقت داخلي شعور المقارنة دائمًا، فعندما أصافح مسلمًا أتذكر تلك المادة.
التطرف بدايته اختزال الإنسان في دينه…
هؤلاء الذين يحتفون بالقس زكريا بطرس لا يثقون في دينهم، قوة دينك لا تستمد من هجومك على دين آخر، وهكذا من يحتفون بشيخ كل مهمته هو دراسة دين آخر وتجريح أنصاره، ويتصور أن خطابه لا يخلق متطرفًا بل دفاع عن دينه.
.....................................................................
اصطحبت صديقي المسيحي إلى عمله الجديد، لم يخشَ من عمل جديد ربما يفشل فيه، لكن أكثر ما يقلقه «الزملاء المسلمون».. في طفولته وشبابه حتى في المرحلة الجامعية كان أكبر إنجازاته في التعامل مع المسلمين أن يصافح بالصدفة جاره المسلم، في كنيسته حذره الخادم من صداقة المسلم حتى لا يبعد عن دينه وكنيسته.
هكذا كنا نخشى الآخر، كنا نقول عن أي شخص مختلف معنا في الطائفة أو الدين، إن صداقته خطر، وإن غدره متوقع.
..................................
كنت محررًا شابًّا في مجلة «روزاليوسف»، تلك المجلة المتحررة في أفكارها تجد فيها من لا يؤمن بالدين لكن أفعاله الصالحة دين في حد ذاته، تجد من يسخر من كل الأديان، تجد من يصلي ويصوم، تجد كل أصناف البشر، ورغم تلك الأجواء الصحية جاءني صحفي تجاوز عمره 50 عامًا يسألني: «هل القسيس يختبر عذرية العروسة قبل الفرح؟»، في البداية، اعتقدته يسخر، لكنه أصر على انتزاع الإجابة منّي، لأجيبه بسؤال آخر: «كيف بعد هذا العمر وفي مجلة أفكارها متفتحة مثل روزا ليوسف تسأل مثل هذا السؤال؟!».
سخر منّا الآخر، واستهزأ بطقوسنا في العلن مثلما كنّا نسخر منه في الخفاء، فتوسع المجتمع الكنسي المغلق، واستقبل مزيدًا من الخائفين من الآخر، واستمر الآخر في السخرية والتصورات الجنسية عنّا دون أن يجتهد ليسأل ويقرأ.
.............................................................
لا تتعجب عندما تسمع البابا «تواضروس» الثاني يقول: «لا يوجد في المسيحية ما يسمى تجديد الخطاب الديني»، فالمؤسسات الدينية دائما لا تعترف بأخطائها، خوفًا من تربص الآخر.
تجديد الخطاب الديني لا يعني تجديد الدين، لكنه تجديد وتطوير مؤسساته ورجاله.
داخل كل مؤسسة دينية هناك من يجيد صناعة التطرف، سواء بقصد أو دون قصد، هناك من يكفر الشيعي ومن يكفر الإنجيلي، هناك من يحرض على الآخر سعيًا وراء التميز.
هذه ليست الحرب المقدسة من أجل نصرة الدين، هذه هي الحرب المتطرفة لنصرة الذات البشرية.
...............................................................
وقف جاري الملتحي في الكنيسة باكيًا في جنازة أبي، لحيته الطويلة دفعت القس الذي يترأس الصلاة لإرسال أحد الخدام ليسألني: «أبونا بيقولك الراجل ده تبعك ولا إيه؟ شكله إرهابي»، ربما أكون مبالغًا في حديثي إذا قلت إنني لم أهتم يومًا أنه مسلم أو حتى تمنيت أن يكون مسيحيًّا، لأن الرجل لم يتركني في أي مناسبة حزينة أو سعيدة، كان الأقرب دائمًا لي.
أتذكر عندما خرج مهرولاً ليحضر «المغسلة» من مسجده أثناء تكفين وتغسيل والدي وسط تكفير ورفض من الآخرين.
هكذا يكون تجديد الخطاب الديني أفعالاً وليس شعارات…
هذا الرجل نجح فيما فشل فيه الشيوخ والقساوسة، هذا الرجل البسيط جدد خطابه الديني دون أن يدري.
................................
المطالبون بتجديد الخطاب الديني هم أكثر من يحتاجون لتجديد عقولهم
التجديد يبدأ من أسفل المنظومة، هذا الخادم الذي سألته يومًا ما عن مصير صديقي المسلم والإنجيلي، كان ينبغي أن يراعي صغر عمري، ويستغل براءتي، ليزرع المحبة داخلي، لكنه كان يكره الآخر، ويرغب في تمييز نفسه، فلجأ لخطاب تكفيري حاد، كان يحتاج لتجديد عقله وقلبه ليجدد خطابه.
.........................................................
كنت أمين أسرة كنسية لطلاب كلية إعلام، مهمتي كانت تتلخص في عقد اجتماع مع جميع الطلاب في الكلية بالكنيسة التي تخصصها لي أسقفية الشباب، نشأتي والأفكار التي زرعها داخلي عدد من الخدام جعلتني أتصور أن مهمتي أن أحمي الطالبات من الشباب المسلم، فذهبت إلى طالبة مسيحية، وطلبت منها أن تتعرف على صديقات مسيحيات، وتبتعد قليلا عن صديقة عمرها المسلمة، فأجابتني أن صديقتها لم تتحدث معها أبدا عن الدين.. فلماذا تخشاها؟!
.......................................................................
هل تتذكر كم مرة ذكر فيها الرئيس السيسي ضرورة تجديد الخطاب الديني؟ لكنه لم يذكر ضرورة تغيير أنفسنا وعقولنا حتى نغير الآخر.
وقف الرئيس في الكاتدرائية يتحدث عن الحب بين عنصري الأمة، نعم كانت زيارته خطوة نحو تجديد الخطاب الديني، لكن خارج الكاتدرائية كان شاب قبطي مكبل الأيادي في عيده وأمام كنيسته.
القبض على محب دوس من أمام الكاتدرائية رسالة تدمر أي محاولة لتجديد الخطاب الديني.
لا تجديد للخطاب الديني دون تجديد الخطاب السياسي.
كيف تقنعنا بحب الآخر وقبوله، وأنت تخطف وتسجن من يختلف معك لمجرد أنه عارضك؟
كيف أصدق من يحمل شعلة تجديد الخطاب الديني وهو يبرر أفعالًا تتعارض مع الإنسانية والحرية؟
انتظرت البابا تواضروس يتحدث عن محب دوس، لكنه لم يتحدث، انتظرت شيخ الأزهر أن يتحدث عن إسراء الطويل تلك الفتاة المعاقة التي صورها النظام بأنها الإرهاب نفسه لكنه لم يتحدث أيضا، واليوم لا أنتظر منهما أي تجديد في الخطاب الديني.
..................................................................
نجدد الخطاب الديني من أجل إقناع أنصار الإخوان أنهم ليسوا شعب الله المختار كما يتصورن، لكن كل منّا يعتقد أن أبناء دينه وطائفته هم شعب الله المختار، السنة يعتقدون أنهم شعب الله المختار ويهاجمون الشيعة والعكس، والأرثوذكس يعتقدون أنهم المختارون، ومصير أي طائفة هو النار، وهكذا كل طائفة ودين تعشق التمييز وتكفير الآخر.
كيف يعالج المريض مريضًا آخر يشاركه نفس المرض؟!
..............................................................
في يوم الاحتفال بالمولد النبوي اتصلت بأسقف معروف لكي يعلق على تهنئة الكنيسة والوحدة الوطنية، فسخر من حديثي: «يا ابني هيا فين الوحدة الوطنية، هو بس إحنا لازم نشارك الآخر في أعياده لكن ده مش دليل على الوحدة الوطنية، فيه مشاكل كتير، يا ابني بلاش أنا تاخد رأيي»، أعجبت بصراحته ورؤيته للواقع، لأنها البداية في التعامل مع الآخر، لكن بعد إصراري فوجئت بتغيير كامل في تصريحاته، «اكتب تربطني علاقة مع شيخ فلان وهو شيخ أزهري جليل، والأمة قوية بعنصريها، والوحدة الوطنية راسخة في نفوسنا»، راجعت رقم الهاتف ربما تداخلت الخطوط لكنه هو، الأسقف ظهر بمظهرين مختلفين تمامًا.
هؤلاء الذين يتحملون مسؤولية تجديد الخطاب الديني يتبعون قاعدة «أنا لا أكذب ولكني أتجمل»!
بداية تجديد الخطاب الديني عزيزي القارئ المسلم أرجو أن تقرأ هذا التحقيق الذي كتبته عما يحدث داخل أسوار الكنيسة بعنوان «قصة حياة شاب قبطي تكشف ما يحدث داخل أسوار الكنيسة»، محاولة لتعريفك حياة الآخر الذي يخشى أن يتحدث معك، وحاول أن تعرفني حياتك وأفكارك بأفعالك أيضًا دون أن تستشهد بآيات قرآنية تؤكد ضرورة معاملة الذمي بحسن، فالأديان مهما كانت تجمع، لكن الطبيعة البشرية هي من تفرق.