لستَ إلهاً ولستَ نبياً

أحمد الشهاوي السبت 16-01-2016 21:14

يمكن أن تكون عالماً فذّاً، ولك مكانةٌ كبيرةٌ فى قلوب أهل الأرض، وليس فئة قليلة أو كثيرة، ويمكن أن يكون هناك إجماعٌ عليك بأنك جليلٌ وصاحبُ دوْر، وتحوز مرتبةً أعلى فى الدين والحياة.

لكن يبقى لى دور الاجتهاد، بأن أخالفك، وأعارضك، دون أن أتجاهلك أو أُقصيك، أو أنفيك خارج صندوق الاجتهاد، لأنك ببساطةٍ لستَ إلهًا، ولستَ نبيًّا، أو رسولًا صاحب معجزة، وما قدمته من إنجازٍ يقبل الشرح والتأويل والنقد لا النقض، لكنَّ مشكلتنا- فعلا- فى جملة «إجماع العلماء»، وهى جملة غامضة، تتردد فى الدقيقة الواحدة ملايين المرات، خصوصاً عندما يكون هناك نقاش بين اثنين، أحدهما ليس لديه حُجة، وغير قادر على الجدل والمُحاججة، واستكمال الحوار، فيشهر فى وجهك سيف إجماع العلماء، الذى يضرب به فى شدةٍ وقسوةٍ، أى اجتهاد أو تأويلٍ، بشأن مسائل لا تحتاج الكثير من الجدل، إذ هى من البدهيات والأمور المحسومة سلفًا، لأن الذى يزودون عن الإسلام، ويحمى سماحته، عليه أن يكون كثيرًا ومتعدِّدًا، ومتقبلًا للآخر، وهو يواجه ويناقش، لأن الله لم يشأ أن يجعل الناس أمَّةً واحدةً «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» سورة هود- الآية 118.

وينبغى للإنسان العاقل ألا يُصدِّق على كلام أى شخصٍ سوى كلام الله ورسوله، ليكون القول الفصل، الذى نسترشد به، ونقتدى، لأن الاختلاف هو السنَّة التى فطر الله الناس عليها، وقديماً قال الإمام أبوحنيفة النعمان (80-150هـ / 699-767م) صاحب المذهب الشهير للإمام مالك بن أنس (93 -179هـ/ 711-795م) إمام دار الهجرة، وصاحب المذهب الشهير أيضاً: إنَّ لنا رأيًا نعرضه عليك، فإن رأيته حسنًا مضينا عليه، وإن رأيته سيئًا تنكَّبنا عنه: لا نكفِّر أحدًا بذنبٍ، المذنبون كلهم مسلمون، قال (الإمام مالك): «ما أرى بها بأسًا».

ومثلى لا ينسى قول مالك بن أنس: «إنْ أحرَقَ الكعبةَ، أو صنع كلَّ شىءٍ فهو مسلمٌ».

ولأننا نعيش زمن الفتنة والضلال والتحزُّب والتكسُّب والتربُّح بالدين، والغُلو حتى القتل، والتشدُّد حد الذبح وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث، ومع كثرة الفرق والمِلَل والطوائف، علىّ أن أذهب إلى الإمام أبى الحسن الأشعرى (260 هـ - 324 هـ) إذْ عندما دنا أجله قال لمن دعاه من أصحابه: «أشهد علىّ أنى لا أكفِّر أحدًا من أهل القِبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبودٍ واحدٍ، وإنما هذا كله اختلاف العبارات»، والذين يلجأون إلى الأشعرى فى مواجهة الفرق الأخرى فى الإسلام باعتباره (إمام أهل السنة والجماعة) عليهم أن يعرفوا- إنْ كانوا لا يقرأون- إنه هو من قال: «ولا يكفِّرُون أحدًا من أهل القِبلة بذنبٍ يرتكبه، كنحو الزنا والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر».

فلنكن من الاختلاف فى الاجتهاد، حتى لا يكون هناك إقرار بالكفر، لأن الاختلاف لا يُفضى- أبدًا- إلى التكفير والتبرِّى، إذْ ربينا منذ الصغر فى مصر على قواعد وأصول تكرِّس وتؤسس للاعتدال والوسطية والسماحة واليُسر و«الورع فى الديانة».

فمن الدين ألا أُخْرِجَ مسلماً من الإسلام، لأن هذا بابٌ كلَّما فُتح لا يُغلق، لخطورته، وعواقبه الوخيمة، لأن الإسلام سمح، وأهله رحماء، ورحم الله الإمام أبا حامد الغزالى عندما قال: (... والذى ينبغى الاحتراز منه: التكفير ما وجد إليه سبيلًا فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ فى ترك ألف كافرٍ فى الحياة أهون من الخطأ فى سفك دمٍ لمسلمٍ واحدٍ).

إذن ينقص تجَّار الدين التوسُّط والاعتدال والرحمة، والفهم العميق للدين، والنظر إلى الإسلام على أنه رسالةٌ، وليس سلخانةً لذبح البشر، وتقطيع أجسادهم، من الذين يقدسون آراءهم، وآراء شيوخهم، ويرونها فوق كل نقدٍ أو جدلٍ حولها، وأنهم فوق الجميع، ولا يمكن أن يأتيهم باطلٌ أبدًا من بين أيديهم، وهؤلاء- عندى- هم من أهل الجهل والغرور والغطرسة والتكبُّر، ومن لم يؤدبه القرآن فليؤدبه السلطان، وقديماً قال الخليفة عثمان بن عفَّان (إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن)، لأن الأرض لا تُقدِّس أحدًا، وإنما يُقدِّس المرء عمله، فى زمنٍ صارت فيه الشتيمة والبغضاء والقتل عملةً سائدةً، ولمَّا كان الأمر متروكًا لعلماء الدين الذين هم مختصون وعارفون، رأينا عددًا كبيرًا منهم عند أوَّل محكٍّ لهم فى سنة حكم الإخوان مصر، يرمون التوسُّط جانبًا، وينحُّون الآية القرآنية 143 من سورة البقرة جانبًا، كأن «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...» ليست من كلام الله الذى ينبغى أن يأتمر به المسلمون جميعًا، وليس طائفةً دون غيرها.

ahmad_shahawy@hotmail.com