ربما لم يسمع معظم من يقرأون هذا المقال عن سايكس بيكو، ولكن معظمهم قد سمع عن داعش، وهى الحروف الأولى من دولة الإسلام فى العِراق والشام، وعن المتحدث باسمها وهو أبوبكر البغدادى، الذى أعلن نفسه خليفة المسلمين.
ورغم البداية الغامضة لداعش فى مدينة الموصل، بشمال العِراق، قبل سنتين، إلا أن نجاحها الخاطف فى اجتياح المساحة المُمتدة من جنوب الموصل إلى شمال بغداد، ومعظم مُحافظة الأنبار فى شرق العِراق، وعبر الحدود إلى غرب سوريا فى محافظات الفُرات والحسكة ودير الزور، أى ما يقرب من ثُلثى سوريا.
والمُتمعن فى ما يصدر عن داعش من بيانات، فإنه لا يُعدم أن يُلاحظ بين السطور أن مشروع الدولة الإسلامية فى العِراق والشام هو مشروع وحدوى يُحاول أن يُصلح ما أفسده المشروع الأنجلو ـ فرنسى الذى صاغه الإنجليزى سايكس والفرنسى بيكو، لاقتسام الولايات العربية للإمبراطورية العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى (1918-1920).
ولعل الأسلوب الوحشى الذى تتعامل به داعش مع خصومها، وما خلقه ذلك من خوف ورُعب هو الذى صرف نظر المُراقبين العرب والأجانب عن المشروع الإقليمى الطموح لداعش وهو بعث الخلافة العربية الإسلامية. وهو الحلم الذى يتكرر عبر الأجيال على امتداد الأربعة عشر قرناً الأخيرة، أى بعد منذ نهاية عصر الخُلفاء الراشدين (41هـ 661 ميلادية).
لقد تزامن هذا العام (2016) مع مرور مائة عام على اتفاق سايكس بيكو، الذى تم أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
وبهذه المُناسبة، نظمت جامعة بيل الأمريكية مؤتمراً حاشداً فى العاصمة الأردنية عمان (8-10 يناير 2016)، شارك فيه أكثر من مائة مؤرخ وقانونى وعُلماء اجتماعيين، للحوار والتداول حول مُضاعفات اتفاق سايكس بيكو، الذى منح فرنسا الانتداب (الاحتلال) على كل من سوريا ولبنان، ومنح بريطانيا الانتداب (الاحتلال) على كل من فلسطين، وشرق الأردن والعِراق. وربما أن بُلدان المغرب العربى (تونس والجزائر والمغرب الأقصى) كانت قد وقعت بالفعل تحت قبضة فرنسا فى القرن السابق، كما كانت مصر والسودان ومشيخات الخليج قد وقعت فى قبضة الاحتلال البريطانى، فقد استكمل اتفاق سايكس ـ بيكو الاحتلال الكامل لكل بُلدان الوطن العربى (ما عدا اليمن).
هذا عن اتفاق سايكس ـ بيكو الذى تم قبل مائة عام بين مُمثلى أكبر إمبراطوريتين استعماريتين فى التاريخ الحديث، والذى ما زال العرب، شعوباً وأقطاراً، يدفعون ثمنه الفادح من دماء أبنائهم ومن ثرواتهم. ولعل فلسطين وشعبها هما الأكثر امتهاناً وتضحية فى هذا المسلسل. وكانت الجزائر قد سبقتها فى نوع الاستعمار الذى حل بها، وهو النوع الذى يُسميه المؤرخون وعُلماء الاجتماع «الاستعمار الاستيطانى»، وهو الأبشع بين كل أنواع الاستعمار. لماذا؟
* لأنه لا يكتفى باحتلال أرض الغير، ويُسلب سيادتها سياسياً.
* ولا يكتفى باستغلال مواردها، ويستغلها اقتصادياً.
* ولكن أكثر من ذلك يُحاول القضاء على هوية سُكانها حضارياً وثقافياً.
* والأدهى من هذا وذاك أن ذلك النوع من الاستعمار الاستيطانى، يُحاول اقتلاع أبناء الأرض الأصليين، ويستبدلهم بسُكان آخرين من وراء البحار، وتحديداً من مواطنى البلد الذى قام بالغزو الاستعمارى. وهو ما حدث، مثلاً، فى الأمريكتين خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكذلك فى أستراليا ونيوزلندا. ولأن السُكان الأصليين فى الأمريكتين وأستراليا كانوا قليلى العدد والحيلة مُقارنة بالأوروبيين الذين دهموهم بأعداد أكبر، وتكنولوجيا أكثر تقدماً، وأسلحة أكثر فتكاً، فقد تمكنوا وسيطروا وأبادوا السُكان الأصليين بشكل أو بآخر.
وحين ظهرت الحركة الصهيونية فى أوروبا، فى أواخر القرن التاسع عشر، كان زُعماؤها الأوائل مفتونين بتجربة الاستيطان الأولى لأمريكا، وأستراليا والجزائر، وقرروا فى مؤتمر لهم فى مدينة بازل السويسرية فى عام 1898، إعلان حلمهم، وقادهم فى ذلك صحفى نمساوى يهودى، هو تيودور هرتزل. ونجحت تلك الحركة الصهيونية فى إقناع بريطانيا بمساعدة يهود أوروبا فى استيطان فلسطين، كوطن قومى لهم، دون اعتبار لسُكانها الأصليين من العرب، المسلمين والمسيحيين والدروز. وهو ما عُرف باسم وعد بلفور، الذى كان وزيراً لخارجية بريطانيا فى ذلك الوقت (1917). هذا رغم أن نفس بريطانيا كانت قد قطعت على نفسها وعداً آخر للشريف حُسين، أمير مكة، باستقلال ووجود الأقاليم العربية للإمبراطورية العثمانية، مُقابل قيادته للثورة ضد الأتراك. وهو ما فعله الشريف حسين. ولكن بريطانيا حنثت بوعدها له، بينما أوفت بوعدها للحركة الصهيونية ولحليفتها فرنسا.
إن كُلية الحقوق بجامعة بيل، التى نظمت المؤتمر، قد دأبت على ذلك سنوياً طوال العشرين سنة الماضية. ويرجع الفضل داخل جامعة بيل إلى أستاذين مرموقين فيها هما أنتونى كروفان وأوين فيس، لإيمانهما بأن الشرق الأوسط هو الأهم لسلام العالم، وأنه لا سلام بلا عدالة لشعوب الشرق الأوسط أجمعين. ومن هنا حرصهما على دعوة مُشاركين من كل بُلدان المنطقة ـ من أفغانستان وإيران إلى فلسطين وإسرائيل ومصر والسودان. وتسرد مداولات ذلك المؤتمر السنوى روح المُصارحة والمُداعبة رغم اختلاف وتنوع المُشاركين، الذين كان بينهم هذا العام المستشار عادل عُمر الشريف، قاضى المحكمة الدستورية العُليا، والقاضى الشاب يوسف عوف، والدكتورة باربارا إبراهيم.
وعلى الله قصد السبيل.