أثارت جلسات البرلمان الأولى إحباطاً لدى البعض وسخرية البعض الآخر، وهجوماً لدى البعض الثالث، وصبراً وأملاً ودفاعاً لدى قطاع رابع، وباتت فى كل الأحوال هناك صعوبة فى فصل ما شاهده الناس داخل أروقة البرلمان عما يجرى فى المجتمع خارج البرلمان، وأن برلمان 2016 انعكاس لما أصاب المجتمع المصرى من تحولات فى السنوات الأخيرة مسؤولة عنها بالطبع السلطة السياسية.
مخطئ مَن يقول إن هذا فقط برلمان السلطة، إنما هو أيضا برلمان المجتمع، فهو فى جانب منه نتاج عمليات شراء الأصوات الواسعة التى جرت دون رقيب أو حسيب، وهى مسألة تتعلق من جانب بغياب دولة القانون، ولكنها من جانب آخر نتاج ثقافة جانب من المجتمع وقيمه قبلت أن تبيع أصواتها أو شرفها بالمال، لقناعة بعضها أن البرلمان لن يفرق وجوده من عدمه.
البرلمان أيضا نتاج قناعة جانب كبير من المجتمع بأن المطلوب ليس فقط برلمانا مؤيدا، إنما برلمان يبايع الرئيس والسلطة السياسية لمواجهة التهديدات، ومَن يتخيل أن برقية الدعم والتأييد التى أرسلها رئيس البرلمان باسم النواب إلى «الرئيس القائد» لم تكن على هوى قطاع واسع من المصريين مخطئ، فهناك ظهير شعبى مازال كبيرا ربط تأييده للرئيس والحكم بمشاعره الوطنية «فى حب مصر» فى مواجهة الخونة والإرهابيين.
والحقيقة أن المشاعر الوطنية التى عبر عنها قطاع واسع من المجتمع تجاه الرئيس والنظام الحاكم تختلف عما جرى فى عهد مبارك حين اقتصر التأييد على مَن تعودوا على تأييد الدولة أو المنافقين لسلطتها أو نواب تعودوا على مبايعة مَن فى الحكم دون أى إحساس بأن دعمهم للسلطة هو واجب وطنى مقدس يستلزم اتهام مخالفيهم فى الرأى بـ«الخونة والعملاء»، أما الآن فإن مشهد النواب وهم يرفعون أعلام مصر ويقولون خطباً حماسية للجيش والشرطة هو موقف ليس منفصلاً عن موقف قطاع واسع من الشعب المصرى يقولون تقريبا نفس كلامهم ومفرداتهم.
إن وجود هذا الظهير الشعبى المؤيِّد للنظام الحاكم دفع أكثر التيارات السياسية تطرفا وثورية إلى عدم الاكتفاء بالهجوم على السلطة والنظام القائم، إنما انتقلت للحديث عما وصفوهم بـ«السيساوية»- أى الجمهور المؤيِّد للرئيس- ومهما كانت قسوة التعليقات التى يلقيها الثوار ضد هؤلاء والعكس، إلا أنهم يعترفون فى النهاية بوجود ظهير شعبى لم يُذكر تقريبا طوال عهد مبارك، حيث نادرا ما تحدث المعارضون عن ظهير شعبى أو «مباركيين»، إنما فقط أو أساسا الرئيس والنظام والأجهزة الأمنية.
إن مَن يتصور أن البرلمان الجديد هو فقط صنيعة الأجهزة الأمنية مخطئ خطأ فادحاً، فهو بذلك ينسى مسؤولية المجتمع عن هذا المشهد، فهناك المقاطِعون «ولا أناقش صحة أو خطأ موقفهم» أو الكسالى أو المناضلون على المواقع الإلكترونية أو أصحاب الأيادى الناعمة من النابهين، الذين ينتقدون ويسخرون ويتعففون عن المشاركة فى السياسة أو التنمية أو حتى محو الأمية، فيقيناً كل هؤلاء ساعدوا مَن غضبوا لرؤيتهم داخل البرلمان إلى الوصول تحت القبة، وكذلك رجال الأعمال، الذين لم يمولوا إلا قائمة واحدة أو أحزابهم «الخاصة»، وفشلت الطبقة الوسطى والجيل الثانى من رجال الأعمال فى أن يبنوا أحزابا وكيانات منظمة قادرة على المنافسة فى الانتخابات.
ويقيناً هناك أنصار الإخوان وحلفاؤهم الذين قاطعوا بالكامل الانتخابات وتمنوا ليس فقط فشل البرلمان، إنما فشل العملية السياسية برمتها.
المجتمع المصرى بنصفه الذى شارك ونصفه الذى قاطع ساهم فى تشكيل صورة البرلمان الجديد. صحيح أن جانبا كبيرا من المشكلة ليس فى أن هناك نوابا عبروا عن مواهب مبكرة فى التبعية للسلطة، فهؤلاء عرفتهم كل البرلمانات بعد ثورة يوليو 52، ولكن مع فارق جوهرى يتمثل فى وجود كفاءات ومواهب كبيرة قادت البرلمان سواء فى عهد عبدالناصر أو السادات أو حتى مبارك، وحين يرأس البرلمان شخص بوزن رفعت المحجوب، ويقود حزب الأغلبية شخص بإمكانات كمال الشاذلى، فسيتحسر الناس على وجود وكيلين فى المجلس الحالى فشلا فى نطق جزء صغير من آية قرآنية نطقا عربيا صحيحا، حتى إن أحدهما أعاد نطقها 4 مرات.
هى إذن ليست فقط أزمة نظام سلطوى ولكنها أزمة تعليم منهار وأمية متفشية وفقر وتهميش وفساد، وهى كلها مظاهر تقول إن حلول مشاكل مصر لن تكون تلقائية مع وجود نظام ديمقراطى سيقضى بقرار على الفساد والفاسدين، إنما هى أزمة مجتمع مشاكله عميقة وقابلية جزء كبير منه للأوضاع القائمة مؤكدة، ولكنها ليست مشاكل فى «جينات» الشعب المصرى، إنما فى مجتمع شكلته على مدار 40 عاما نظم سياسية فاشلة لا ترغب فى تقدمه.
يقينا مَن شَـكَّل -بفتح الشين- المجتمع أساسا هو النظم القائمة، ومَن ساعد على تدهور تعليمه وقيمه هو أيضا السلطة السياسية، وأن مسؤولية الأخيرة عما أصاب المجتمع، الذى أنتج جزء كبير منه البرلمان الحالى، مؤكدة أيضا عبر قوانين انتخابية هى الأسوأ، وبسلبية صادمة للدولة تجاه كل المفاسد التى جرت أثناء العملية الانتخابية.
البرلمان مرآة المجتمع بما يعنى أنه لو قامت السلطة بواجباتها، وواجهت بقوة القانون كل الجرائم التى شهدتها العملية الانتخابية، لكان شكل البرلمان أفضل قليلا، أما إذا كانت قد امتلكت الإرادة السياسية لبناء تحول ديمقراطى حقيقى وتأسيس دولة قانون وجذبت جزءا كبيرا من المقاطعين للمشاركة فى العملية الانتخابية، لكان شكل وأداء البرلمان أفضل نسبيا، وفى كل الأحوال لم نكن سنرى- قبل سنوات من التراكم والعمل الجاد- البرلمان المتخيَّل أو الذى نتمناه.