المجد للشعب وللقضاء

حلمي النمنم الثلاثاء 12-01-2016 21:37

الحكم عنوان الحقيقة، تلك قاعدة قانونية وقضائية، خاصة إذا أصبح الحكم باتاً ونهائياً، وعادة يكون الحكم باتاً ونهائياً، ما لم يتم الطعن عليه، وأما إذا طُعنَ عليه حتى مرحلة محكمة النقض، فإنه يصبح نهائياً ولا يجوز أى طعن عليه.. وها قد صدر الحكم البات والنهائى من محكمة النقض بإدانة الرئيس السابق محمد حسنى مبارك، فى قضية القصور الرئاسية، وأتصور أن إدانة مبارك فى هذه القضية أقسى سياسياً وأخلاقياً وإنسانياً مما لو أُدينَ فى قضية قتل المتظاهرين.

التعامل العنيف مع المتظاهرين، يمكن أن يكون له تبرير سياسى، حتى لو لم يكن مقبولاً، فى النهاية رئيس استشعر خطورة من التظاهر والمتظاهرين على نظام الحكم أو على أمن المجتمع، حدث ذلك أثناء تظاهرات 18، 19 يناير 1977، التى عرفت باسم «مظاهرات الخبز»، حين صدرت عدة قرارات برفع أسعار بعض السلع الغذائية، ومضى الأمر واستمر الرئيس السادات فى الحكم، وراح يندد بتلك المظاهرات، التى أطلق عليها «انتفاضة حرامية»، فى مواجهة من سموها «انتفاضة شعبية»، وظل يعتبر السيطرة عليها واحدة من مفاخره السياسية والأمنية، ولم يفتح أحد هذا الملف نهائياً، ولا حتى بعد استشهاد السادات فى السادس من أكتوبر 1981.

والأمر فى القصور الرئاسية مختلف، لم يكن هناك خطورة من أى نوع، وهى جريمة تصنف فى إطار ما يمكن تسميته «الفساد الصغير» أو «الفساد المتدنى»، كونه وقع من أرفع مسؤول بالدولة، وهى كذلك جريمة تعد فى نظر القانون المصرى ماسة بالشرف.

بهذا الحكم يدخل الرئيس السابق مبارك التاريخ، وقد دخله قبل هذا الحكم، هو أطول رئيس جمهورية جلس على كرسى الحكم، خلال النظام الجمهورى، ولن ينافسه أحد فى ذلك، طبقاً لنص الدستور، لا يجوز لرئيس أن يحكم أكثر من دورتين، أى ثمانى سنوات، وهو أطول من جلس على عرش مصر فى تاريخنا الحديث، بعد محمد على، هو كذلك أول حاكم، فى تاريخ مصر كلها، يقدم لمحاكمة قانونية، سبقه إلى ذلك «طومان باى»، لكن طومان باى وقف أمام السلطان الغاشم سليم الأول ولم يقف أمام هيئة محكمة، ومبارك هو أول حاكم يدان بحكم قضائى على هذا النحو.

فى القرن التاسع عشر عزل الخديو إسماعيل- سنة 1879- ولكن كان ذلك بفرمان عثمانى وضغط أوروبى، بسبب زيادة الديون، وإن كانت دوافعه أبعد من ذلك، وبعد قيام الحرب العالمية الأولى بشهور، عزل الإنجليز الخديو عباس حلمى، لم يكن عباس يحب الإنجليز، بسبب احتلالهم لمصر، وانتزاعهم الكثير من سلطاته، وكان واضحاً ميله للألمان ضدهم- لأسباب وطنية- وبسبب ذلك حزن عليه المصريون، وأطلقوا الأهازيج فى حبه، خاصة التعبير الشهير «الله حى.. عباس جاى»، وظل المصريون ينتظرون عودته لينقذهم ويخلصهم من الإنجليز، حتى قامت ثورة 1919.

بعد ذلك، وفى 26 يوليو 1952، تنازل الملك فاروق عن العرش، ونُفى خارج البلاد، لكنه لم يحاكم ولم يوجه إليه أى اتهام، فقط تعرض لحملات صحفية قاسية بعد تنازله عن العرش، وقام بها بعض من الذين امتدحوه من قبل أو عملوا بالقرب منه، كريم ثابت مثلاً. وعُزل اللواء محمد نجيب أو تقدم باستقالته من منصبه فى أكتوبر 1954، وتم تحديد إقامته، لكنه لم يحاكم ولم يوجه إليه أى اتهام. الجديد بالنسبة لمبارك أنه ترك السلطة إثر ثورة- ثورة 25 يناير- كان مضطراً أمامها أن يتخلى عن السلطة وبعدها صار من مطالب الثورة المحاسبة والمحاكمة للرئيس نفسه، وانضم إليه فى المحاكمة نجلاه علاء وجمال، وأُدينا معه ومثله.

لولا ثورة 25 يناير، ما غادر مبارك الحكم على هذا النحو، ولا جرت المحاكمة وتوجيه الاتهام والإدانة، على الأغلب ربما كان ملف التوريث اكتمل؛ ولو لم يكن لهذه الثورة من نتائج غير ذلك لكفاها، دعنا الآن من الآثار الجانبية للثورة وكان من بينها امتطاء الإخوان لها وللشارع.

هذا الحكم الذى صدر هو حكم الشعب، وعادة يبدأ الحكم القضائى بعبارة «باسم الشعب»، وتجربة مبارك تثبت أن هذا الشعب لا يعطى تفويضاً ولا خاتماً أبدياً لأحد، وهناك ثلاث لحظات يجب أن نتوقف أمامها فى رحلة مبارك مع المصريين، لحظة وصوله إلى الحكم بعد استشهاد السادات، ولحظة نجاته من محاولة الاغتيال فى أديس أبابا، ولحظة 11 فبراير 2011.

فى أكتوبر 1981، علق الشعب الآمال على مبارك، وكان رمز النجاة والخروج بمصر من الحالة الإرهابية التى فرضها علينا الإرهابيون، ومن أسف أن بعض هؤلاء مازالوا يمارسون أو يسعون إلى ممارسة الإرهاب اليوم.

وفى لحظة أديس أبابا، ابتهج الشعب لنجاة الرئيس، كم كان محزناً أن يتعرض رئيس البلاد لمحاولة اغتيال خارج البلاد، وبالتأكيد لو نجحت المحاولة فإن تأثيرها كان سيصبح سلبياً على هيبة البلاد.

أما فى لحظة 11 فبراير، فإن الشعب، هو الذى ابتهج بتخلى مبارك عن الحكم، ما الذى تغير فى الأمر؟!

بالتأكيد كان مبارك هو الذى تغير وأدى ذلك إلى أن يتغير الشعب تجاهه، والحق أن الشعب المصرى لم يكن كريماً مع أحد من حكامه ورؤسائه، قدر كرمه مع مبارك، ولكنه فى 2011 فاض به ولم يعد قادراً على التحمل ولا منحه فرصة أخرى، ومن ثم كان لابد من الرحيل، وهذا ما فتح الباب للمحاكمة والإدانة، والمجد فى النهاية للشعب ولقضائه.