عن نجيب باشا محفوظ (2)

نصار عبد الله السبت 09-01-2016 20:51

كانت الأم فى الخامسة والأربعين، وكان المخاض قد استغرق ثلاث ليال بأكملها قبل أن تضع مولودها الثامن فى الخامس من يناير1882!!..

لم تكن يداه مقبوضتين كشأن الطفل ساعة يولد، بل كان مسترخيا كل الاسترخاء.. لانبض ولا تنفس (وهو ما يسمونه فى الطب بالأسفكسيا البيضاء وهى أسوأ درجات الاختناق الشديد فيما يخبرنا الدكتور نجيب محفوظ فى كتابه الممتع: «حياة طبيب»).. وعلى هذا أعلنت الحكيمة «بهانة» التى كانت تقوم بالتوليد أن الوليد قد فقدالحياة!!.. فتم وضعه عندئذ فى صينية بجانب نافذة مفتوحة!!..

وعندما حضرت خالته السيدة: «هنا» تبين لها أن الوليد يتنفس على ضعف!، فأسرّت بذلك إلى الحكيمة التى سارعت إلى إنعاشه بما تعلم من الوسائل..

لكن تعرضه للهواء البارد أمام شباك مفتوح، فى أوج الشتاء، أثر تأثيرا سيئا على صحته، فعاش معتلا لمدة شهرين، ثم شاء الله له الشفاء ليكون بعد ذلك واحدا من أنبغ أطباء الولادة الذين أنجبتهم مصر!، ويشرف بنفسه على الآلاف من الحالات العسرة التى كتب الله لأصحابها الحياة على يديه، ومن بين تلك الحالات حالة السيدة فاطمة قشيشة زوجة عبدالعزيز إبراهيم أحمد السبيللى من حى الحسين، والتى كللت بالنجاح مما جعل الأب يطلق على المولود اسما مركبا هو: «نجيب محفوظ» تيمنا بالطبيب الذى جاء إلى الحياة على يديه، دون أى تحرج أو حساسية على الإطلاق من كون ذلك الطبيب مسيحيا!!..

وقد أصبح ذلك الطفل فيما بعد روائيا عظيما رفع اسم مصر عاليا فى كل مكان تقريبا، حيث قرأه ملايين القراء بإعجاب شديد فى شتى بقاع العالم حتى قبل أن يحصل على جائزة نوبل للآداب، فتتضاعف شهرته التى كانت قبل ذلك قد طبقت الآفاق بالفعل!..

ولقد كانت أسرة الدكتور نجيب محفوظ (الطبيب) ميسورة الحال وقت ولادته (تدهورت بعد وفاة أبيه) وهو ما أتاح له أن يلتحق بالمدرسة الأمريكية بالمنصورة، لكنه سرعان ما تركها لسبب غريب نترك له أن يرويه فيما روى: «حدث أن مدرس الجغرافيا سألنى عن عاصمة أفغانستان فأجبته بأنها «كابول» فسألنى «وما عاصمة بلوخستان؟» فلم أحر جوابا، فاستشاط غضبا، وعنفنى تعنيفا لم أجد له مبررا، فصبرت حتى انتهت الحصة وذهبت لوالدى، وأخبرته بأنى لا أريد البقاء بتلك المدرسة وأردفت قائلا إن بقائى بالمدرسة الأمريكية سوف يحرمنى من الالتحاق بمدرسة الطب العليا التى لا تقبل إلا تلاميذ المدارس الحكومية، فاقتنع والدى بالشق الأخير من كلامى وألحقنى بمدرسة المنصورة الابتدائية التى كانت خطوتى الأولى فى الطريق إلى مدرسة الطب»..

ويوم رحيل والده وقعت واقعة غريبة يقول عنها إنه لم يجد لها حتى لحظة تأليفه لكتابه تفسيرا، ذلك أنه أراد أن يبلغ الخبر إلى شقيقته «عزيزة» التى كانت تقيم مع زوجها فى إحدى قرى دمنهور حيث لا تليفون ولا مكتب تلغراف، ومن ثم فقد اضطر إلى إرسال رسالة مع خادم سافر خصيصا إلى دمنهور فبلغها فى المساء، ثم امتطى دابة بالأجرة لكى يصل إلى القرية، وهناك قيل له إنها قد سافرت فى الصباح متجهة إلى المنصورة وإنها سوف تعرج على دمنهور لكى ترسل منها برقية.. وقد وردت برقيتها بالفعل قبل أن يعود الخادم، وكانت تطلب فيها أن ينتظرها على محطة قطار المنصورة، فذهب لاستقبالها حيث فوجئ بأنها متشحة بالسواد.. وعندما سألها عن السبب، أجابته بأنها رأته فى المنام فى غفوة الصباح يرفع الكلة عن وجه أبيه فيكتشف أنه قد فارق الحياة.. ولم يكن هذا الوصف مختلفا عن الحقيقة فى شىء!!

nassarabdalla@gmail.com