فى شهر يوليو الماضى، فاجأت صحيفة «ذا صن» البريطانية الشهيرة جمهورها بغلاف نارى غاية فى الإثارة؛ إذ حمل صورة واضحة كبيرة لنائب رئيس مجلس اللوردات آنذاك «جون سيويل»، البالغ من العمر 69 عاماً، وهو يشم الكوكايين، بورقة مالية فئة الخمسة جنيهات إسترلينية، على صدر عار لبائعة هوى.
لم تكن تلك الصورة المثيرة الصادمة سوى جزء يسير من تقرير كامل وشريط فيديو بثته الصحيفة الشهيرة، وهو الشريط الذى نقل وقائع «سهرة ماجنة» أمضاها «سيويل» بصحبة فتاتى ليل، وتعاطى فيها المخدرات.
يمثل ما فعلته «ذا صن» فى هذا الصدد انتهاكاً واضحاً لخصوصية «سيويل»، لأن أياً من الفتاتين لم تدّع عليه أى ادعاء، كما أن ما فعله فى «حيزه الشخصى الخاص» لم يمثل إزعاجاً أو انتهاكاً لحرية آخرين أو أمنهم.
ومع ذلك، فإن أحداً لم يوجه اتهاماً من أى نوع لـ «ذا صن»، أو يمنعها من متابعة القصة واستخدام المواد الخاصة بها فى تغطيات تالية.
الأهم من ذلك أن «سيويل»، الذى بات منذ نشر هذا التقرير يعرف باسم «لورد كوكا»، سارع بتقديم استقالته من مجلس اللوردات، واعتذر للبريطانيين، وبرر استقالته بأنه لا يريد للأنباء التى نشرت بشأنه، والتى توضح بعض سلوكياته الشخصية، «أن تنال من ثقة المواطنين فى المجلس».
ثمة واقعة أخرى موحية فى هذا الصدد، فقد تصدر غلاف مجلة «كلوسر» Closer الفرنسية، فى عددها الصادر فى 13 سبتمبر 2012، صورة لدوقة كامبريدج، الأميرة «كايت»، وهى عارية إلا من القطعة السفلى من رداء السباحة، بعدما التقط مصورو «الباباراتزى» صورة للأميرة، وهى تقضى عطلة فى جنوب فرنسا.
لكن العائلة المالكة البريطانية تضررت من نشر صورة الأميرة بصدرها العارى، فرفعت دعوى أمام القضاء الفرنسى المستعجل، لتبت المحكمة فى القضية بسرعة شديدة، وتصدر حكمها النهائى فيها فى فترة لم تتجاوز أسبوعاً.
لقد قضت المحكمة المدنية، فى بلد الحريات فرنسا، بإلزام المجلة بعدم نشر صورة دوقة كامبريدج عارية مجدداً، وبتسليم الصورة الأصلية للقصر الملكى خلال 24 ساعة، وبعدم بيعها لأى صحيفة أخرى داخل البلاد أو خارجها، وبغرامة مقدارها 13 ألف دولار أمريكى عن كل يوم تأخير فى التنفيذ.
تذكرت هاتين الواقعتين، وغيرهما الكثير، حينما دار النقاش فى ندوة مثمرة أقامها «المركز الإقليمى للدراسات الاستراتيجية»، الأسبوع الماضى، حول الضوابط التى تنظم العلاقة بين حرية الرأى والتعبير من جانب، وحماية الخصوصية من جانب آخر.
يعطينا المثلان السابقان الصيغة الأفضل لفض الاشتباك بين الحق فى الخصوصية وحق الجمهور فى المعرفة؛ إذ يتضح أن «اللورد كوكا»، الذى شغل منصب وزير فى حكومة «تونى بلير»، ومنحته الملكة لقب «نبيل» مدى الحياة، فرّط فى خصوصيته، حين انتهج سلوكاً يؤثر فى سمعته ومكانته، ويزعزع الثقة فى مؤسسة عامة يمولها دافعو الضرائب (مجلس اللوردات).
أما الأميرة «كايت»، فإن خصوصيتها يجب أن تصان، لأنها لم تفعل سوى التمتع بعطلتها، ولم تأت سلوكاً مغايراً لما يصدر عن القطاعات الغالبة من المواطنات البريطانيات فى أثناء قضاء العطلات الشاطئية.
والشاهد أن الخصوصية قيمة حيوية لا يجب انتهاكها بزعم حرية الرأى والتعبير أو حق الجمهور فى المعرفة، لكن قيام «الشخص العام» بسلوك شخصى يضر المصلحة العامة بشكل واضح، ويؤثر فى استقرار المؤسسات العامة أو يزعزع الثقة فيها، يمنح الصحافة الفرصة للتجرؤ على تلك الخصوصية.
لكن الرخصة التى تبيح للإعلام اختراق الحيز الخاص للشخص العام مرهونة بشروط صارمة؛ أولها أن يكون الرابط واضحاً بين السلوك الخاص والمصلحة العامة، وثانيها أن ينشأ اعتبار موضوعى يقود الصحافة لتقصى الوقائع الخاصة للشخص العام، وثالثها أن يتم عرض القدر اللازم فقط من الوقائع الخاصة لإثبات الضرر، ورابعها أن يتم إيراد رأى الشخص المخترقة خصوصيته فى ذات الحصة الإعلامية التى نشرت صوراً أو تسجيلات خاصة به.