مازال دستور ١٩٧١ يُلقن الأولين والآخرين دروساً فى الممارسة السياسية والبرلمانية والأخلاقية وإدارة شؤون البلاد بشكل عام، باعتباره الدستور الأوفق والأصلح والأقوى والأنسب للحالة المصرية من كل جوانبها إلا أنها المكابرة والعناد، فكلما كانت هناك مقارنة حول أى من القضايا التى تضمنتها دساتير المرحلة أو أى من المواد المتعلقة بها، فسوف يكون التميز سلفاً، وبلا أدنى جهد، لدستور ٧١، ويكفى المقارنة الشخصية بين الأسماء التى وضعت ذلك الدستور المشار إليه، وبين من وضعوا الدساتير فيما بعد ذلك، لنكتشف أن الفارق كان كبيراً، ومن ثَمّ فإن الفارق فى المنتَج النهائى كان كبيرًا أيضاً.
فقد جاء فى المادة رقم ١٠٦ من دستور ١٩٧١ ما نصه: (جلسات مجلس الشعب علنية)، ثم أضاف: ويجوز انعقاده فى جلسة سرية، بناءً على طلب رئيس الجمهورية أو الحكومة، أو بناءً على طلب رئيسه أو عشرين من أعضائه على الأقل، ثم يقرر المجلس ما إذا كانت المناقشة فى الموضوع المطروح أمامه تجرى فى جلسة علنية أو سرية.
ثم للأسف جاء دستور ٢٠١٢ فأغفل النص هذا الحق الشعبى، ثم سار على دربه دستور ٢٠١٤، دون الأخذ فى الاعتبار أن هذه العلانية تمثل حقاً أصيلاً للجماهير التى اختارت النواب، ليصبح من حقهم مراقبة أدائهم، وليت كان هذا الإغفال عن عمد، على اعتبار أن عملية العلانية، أو إذاعة الجلسات هذه، أصبحت حقاً أصيلاً للمواطن والنائب فى آن واحد.
فإذا افترضنا حُسن النية، سوف نجد أن المُشرِّع اعتبر هذا الوضع، بمثابة تقليد متعارف عليه فى الممارسة النيابية، ليس فى مصر فقط، فلم يتم النص على سرية الجلسات ذات يوم، باعتبار أنها أصبحت حقاً مكتسباً للناس كافة، إلى أن كان ما كان، خلال السنوات الخمس الماضية، فاختلطت الأوراق، وأفرزت المرحلة ما أفرزت، من عبث وجهل، وشخصيات بعيدة كل البعد عن الحياة النيابية، بل والحياة السياسية بصفة عامة، فبدأت المطالبات بسرية الجلسات، وكأن البرلمان سوف يمارس أفعالاً مشينة، لا قدر الله، أو أنها للكبار فقط، فأرادوا عدم إقحامها على البيوت، أو على أقل تقدير سوف يناقشون، أو يوافقون على ما يضرّ الشعب ولا ينفعه.
ما لا يدركه البعض أن السرية قد تكون لها أهميتها فى اجتماعات تنفيذية، أو عسكرية، أو حتى فى العلاقات الثنائية للدول، أما الاجتماعات البرلمانية، والمجالس الشعبية المحلية، أو المجالس المنتخبة بشكل عام، فإن من حق الناخبين الاطمئنان على اختياراتهم، وعلى مصالحهم فى آن واحد، ما بالنا إذا كان الأصل فى جلسات القضاء هى الأخرى العلانية، لمجرد أنها تتعلق بالناس، فيما اعتُبر رقابة شعبية منهم على القاضى، وهل تجرى المحاكمات وفقاً للأصول المنصوص عليها، والقواعد المتعارف عليها، أم لا؟.
الغريب فى الأمر هو أن تكون هناك أيضاً مفاوضات من أى نوع، مع تليفزيونات وفضائيات، أحياناً خاصة، وأحياناً أخرى غير مصرية، للبحث فى أحقية إحداها بتسجيل أو بث جلسات المجلس، فى وجود تليفزيون الدولة الرسمى، أياً كانت المبالغ الطائلة التى سوف يسددها الآخرون نتيجة هذا التسجيل، أو البث، بما يؤكد عقيدة رجل الشارع بأن كل شىء أصبح مشاعاً للبيع والشراء، بالريال والدرهم، فى ظل هذا العبث الذى نعيشه ليل نهار.
قد نرى تهريجًا فى البرلمان، لم نشهد مثله من قبل، نظراً لنوعية عدد ليس قليل من النواب، قد نرى عنفاً، نظراً لنوعية عدد آخر، قد نرى صمتاً وعدم تفاعل، نظراً لنوعية فئة ثالثة، وقد نرى أخطر عملية سلق للقوانين التى يجب الموافقة عليها فى غضون خمسة عشر يوماً، وقد قدرها البعض بنحو ستمائة قانون، وقد نرى ما هو أبشع من ذلك، فى ضوء وجود أعضاء لم يمارسوا العمل النيابى، ولا حتى الحزبى، ولا الشعبى بصفة عامة من قبل.
إلا أننا فى كل الأحوال، وقبل هذا وذاك، أمام برلمان يمثلنا جميعاً، لا يجب أبداً أن يخجل منا أو نخجل منه، من حقنا أن نشاهدهم ونبدأ فى تقييمهم منذ اللحظة الأولى، من حقنا أن نسمع من اعتاد السبّ واللعن، ونشاهد من اعتاد رفع الحذاء، ونرى من لا يستطيع مقاومة النوم خلال الجلسات، وأيضاً من يبلى بلاءً حسناً، قد نطالب بحل البرلمان فوراً درءاً للمهزلة، وقد نكون سنداً له فى استكمال مسيرته.
كيف يمكن أن تتحقق كل هذه المُتعة فى حالة سرية الجلسات؟