ليس بمقدرتك أن تبنى وطنًا إلا بالحوار والحرية والحب، والابتعاد عن الحصار والحسد والحقد والحجْب والحبس والحرق والحط (من الشأن)، والنزول إلى الدِرْك الأسفل من الحضيض، والحَيْوَنة (فى الجدل والنقاش)، والحدّ (من سقف حرية التعبير والكلام)، وحثالة سقط متاع البشر، الذين أخذوا مواقع كبار العقول والنفوس والأرواح، واحتلوها بجهالتهم وجاهليتهم، وحربائية المواقف، إذْ كثُر المتلونون والمتغيرون بشكلٍ لم يسبق له نظير فى أى تاريخٍ معاصرٍ أو حديث أو قديم، وهناك قولٌ منسوبٌ للإمام على بن أبى طالب، رضى الله عنه، (13 من رجب 23 ق هـ/ 17 من مارس 599م - 21 من رمضان 40 هـ/ 27 من يناير 661م) لمَّا وجِّه إليه سؤالٌ: ما يفسد أمر القوم يا أمير المؤمنين؟ فأجاب الإمام: «ثلاثة وثلاثة، وضع الصغير مكان الكبير، ووضع الجاهل مكان العالم، ووضع التابع فى القيادة، فويل لأمَّة، مالها عند بخلائها، وسيوفها بيد جبنائها، وصغارها ولاتها»، وليست مقولة رفاعة رافع الطهطاوى (1216 هـ/ 1801م - 1290 هـ/ 1873م) ببعيدةٍ عن الذهن، حينما خاطب أهل مصر قائلا: (يا أهل المحروسة، ليكن الوطن مكانًا لسعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية والفكر و...).
ومن يتصور من أصحاب «الفكر» الدينى المُغلق أنه كلما فتحت بابًا واسعًا للحداثة والديمقراطية والحرية، فأنت تغلق باب الدين أو على الأقل تضيِّق فتحته، فهو مُغالٍ فى تشدُّده، ومُسرف فى تطرُّفه وضيق أفقه، وغير واعٍ بطبيعة تحوُّل الأمم وتقدمها، وانتهاجها طريق التقدُّم والنهوض والرُّقى والازدهار، لأنَّ الدين الحق صنو الحرية، وليس مُناهضًا لها أو نافيًا، أو حاذفًا سيرتها من كتابه، كما أنه سيبقى- حتى النَّفَس الأخير للعالم- مُؤثِّرًا ومُغيِّرًا، بعيدًا عن التعصُّب والتمذهُب والتخندُق فى بئرٍ مُعطَّلة لا ماء فيها ولا هواء.
والذين ينادون بالحداثة والحرية، ليسوا فى صراعٍ عقائدى أو فكرى مع الدين، بل يروْن الدين (أى دين) ضرورةً حتميةً فى حياة الشعوب، بشرط ألا يكون دينًا مهمته الأولى القتل والسفك والحرق والسَّبى والسرقة والنهب، وكل الأساليب المنحرفة، التى نراها فيمن ينسبون أنفسهم زُورًا وبُهتانًا إلى الدين، حيثُ يستبدون باسم الله، اعتمادًا على تفسيراتهم المغلوطة، وتأويلاتهم الخاطئة، وتخريجاتهم غير المقبولة دينيًّا ومنطقيًّا، والتى أودت فى بضعة شهورٍ فقط إلى قتل وتشريد مئات الألوف فى بلدين عربيين متجاورين هما سوريا والعراق، إذ ابتعدوا عن الدين كرسالةٍ تطلبها الروح، وتحتاجها النفس، وسيَّدوا- بتعسُّفٍ غير مسبوقٍ- دينهم السياسى، الذى يريدون له السيادة، مُبتعدين عن القرآن والسُّنَّة.
وهو دينٌ بعيدٌ كل البعد عن الدين المنزَّل أو المُرسل من عند الله سبحانه وتعالى، إذ صار دينهم دينًا بشريًّا يتلوَّن وينحرف ويتغيَّر بمذهبيتهم وبُغيتهم وهدفهم الاجتماعى والسياسى، واحتلال الكرسى السياسى فى البلاد، وامتطاء العباد بالكرباج والإكراه، وذلك بعيدٌ عن الاعتقاد الدينى الحقيقى، والإيمان الذى تحفظه الصدور، لذا أرى أن هؤلاء من دُعاة الدين الجديد وتجَّاره قد سرقوا الأصل وشوَّهوه، وقدَّموا صُورةً تعسةً وبائسةً وشائهةً عن الدين الحق، حيث استخدموا الدين الشائه أو الناقص الذى اخترعوه، لبسط سلطانهم على البلاد والعباد، والتحكُّم فى البشر، وفرض ذلك الدين باعتباره دين الله، ولا دين غيره، ومن يأتى بنصٍّ من القرآن ذاته لا يوافق هواهم اعتبروه زنديقا وكافرًا وجب قتله، وطرقهم فى القتل أكثر من أن تُحصى.
إنَّ العيب ليس فى الدين، لكنَّه فى انحراف وفساد الذين يركبونه مطيةً، لتحقيق أغراضهم، الأمر الذى أدَّى إلى الخيبة التى تُلازم المسلمين بعد السلوكيات المنحرفة التى تمارسها طوائف منهم.
وإذا كان القرآن- كِتاب الله سبحانه وتعالى- قد طلب من المسلمين «إحسان معاشرة غيرهم من أهل الأديان والمذاهب»، وطَوال التاريخ الإسلامى من أيام النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا، رأينا كيف تمَّت المصاهرة بين المسلمين وأهل الكِتاب، بحيث تبقى الزوجة حُرَّةً فى أداء طقوس وشعائر دينها، ثم يأتى زمنٌ نرى فيه الاعتداء على الأقباط والشيعة فى مصر، والاعتداء على المسيحيين والإيزيديين فى العراق، والاعتداء على السُّنة فى إيران، وبالمثل فى الهند وباكستان وبنجلاديش (بين السُّنة والشيعة)، وفى عددٍ من دول آسيا الوسطى التى تدين بالإسلام (أذربيجان، وكازاخستان، وقرغيزستان، وتركمانستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، وقره قالباق وغيرها)، وهى بالمناسبة البلدان التى ولد فيها البخارى، والترمذى، والبيرونى، وابن سينا، والخوارزمى، والنسائى، والنسفى، والفارابى، والماتريدى، والزمخشرى، مما جعل الناس تهجر ديارها خوفًا من الاغتصاب والقتل والحرق والتمثيل بالجُثث، حتى صرنا نعيش زمن ثقافة قطع الرؤوس، وحرق الجثث، والتمثيل بها أمام الناس والأهل جهارًا نهارًا.