وزارة النقل، والسلخ قبل الذبح!

وليد علاء الدين الإثنين 04-01-2016 22:17

في ليلة رأس السنة، في دلتا مصر، غرق زورق صغير في النيل فمات 15 إنسانًا.

في الليلة نفسها -في دبي- أتت النيران على فندق مكتظ بآلاف البشر، ولم يتعرض أحدهم لأذى.

مقارنة سريعة بين تصريحات المسؤولين في كل من البلدين، تكشف عن الكثير من ملامح التكوين الثقافي والفكري الذي يقف خلف الفشل هنا. . . والنجاح هناك.

وهي مقارنة أتمنى أن تكون مدخلًا لدراسات علمية جادة ربما تقودنا خارج هذا النفق المظلم الذي نمر به.

في دبي، كان التصريح الرسمي احترافيًا من الطراز الرفيع: «السيطرة على الحادث، والإعلان عن الأسباب بعد اكتمال التحقيقات الأولية».

وقد ترافق مع ذلك التصريح إعلانٌ واضح عن أنه «لا خسائر في الأرواح». مع إيضاح لتفاصيل عملية الإخلاء التي تمت في أقل من المعدلات العالمية من دون أن تؤثر على سير عملية الاحتفال برأس السنة في منطقة برج خليفة الملاصقة.

في مصر، صرح اللواء السيد نصر محافظ كفر الشيخ بأنه يتابع الحادث لحظة بلحظة، مشيراً إلى أن فرق الإنقاذ بمحافظتى كفر الشيخ والبحيرة ما زالت تبحث عن جثث أخرى، قبل أن يبدأ في سرد أسماء الضحايا الذين تم استخراج جثثهم!

من هنا تبدأ فنون الإدارة في مصر: بعد وقوع الحادث تتم متابعته لحظة بلحظة، ولا ينسى المسؤول أن يصرح بنفسه أنه يقوم بذلك، ثم يجتهد في إحصاء أعداد وأسماء الضحايا معتبرًا ذلك أحد فنون متابعة الحوادث الكبيرة.

التصريح السابق نفسه – بتصرف بسيط- تكرر على لسان اللواء محمد عاطف شلبى، مدير أمن كفر الشيخ، فقد أكد الرجل أنه يتابع موقف غرق المعدية، ولم ينس أن يؤكد أن رجال الإنقاذ يبذلون قصارى جهدهم لمحاولة التعرف على وجود جثث أخرى أم لا!

أما المهندس محمد أبوغنيمة، رئيس مركز ومدينة فوه التي وقعت فيها الكارثة، فقد جدّد في تصريحه واجتهد في إضافة معلومة، حين قال: إن المعدية التي غرقت انتهى ترخيصها منذ 8 شهور وهى غير صالحة فنيًا.

وهو في الحقيقة أمر يحسب له ويكشف عن قوة وسرعة أداء مركز المعلومات التابع لإدارته، وقدرته على التعامل مع الأزمات الصعبة وفي وقت قياسي، ولا شك أنه خلال سنوات بسيطة- إن استمر على هذا المنوال- قد يتمكن من معرفة معلومات كهذه في وقت يسبق وقوع الحوادث بدقائق قليلة.

أما المتحدث باسم وزارة النقل فهو قصة تستحق العرض، يقول الرجل في تصريحه: «إن السبب الرئيسي وراء غرق المعدية هو عدد الركاب الزائد»، ثم يضيف في ثقة بالغة: «هذا لن يكون آخر حادث غرق»!

يبدو أن قدرات الإدارات الحكومية تطورت وأصبحت تضع سيناريوهات للمستقبل، ويبدو أيضًا أن ثقتها في تلك السيناريوهات خارقة لدرجة اليقين الذي لا يقبل الشك.

إنه في الحقيقة تصريح رجل يقدس عمله في وزارة النقل ويجوّد في أداء مهامه إلى حد استغلال المواقف بمهارة بالغة في الترويج لوزيره ولرئيسه، يقول: «إن سعد الجيوشى وزير النقل يتابع طوال الليل الحادث الأليم، واللواء رضا إسماعيل، رئيس هيئة النقل النهرى متواجد هناك في منطقة الحادث». تصريحات غاية في الحساسية.

وبحنكة إدارية بالغة يستغل الموقف ليعلن عن مخططات الوزارة في «حفظ أرواح المصريين»! يقول: «إن وزير النقل قاد أمس الأول، بالاشتراك مع شرطة المسطحات المائية، حملة في نهر النيل للتفتيش على المراكب النيلية والتأكد من تراخيصها وتوافر احتياطيات الأمن والسلامة بها واستبعاد المراكب غير الصالحة منها حفاظًا على أروح المواطنين»!

واستكمالًا للتعريض- من عَرض الحقائق- يحدد المتحدث باسم وزارة النقل الأرقام موقنًا أن هذا هو الوقت المناسب لها، يقول: «إن هيئة النقل النهرى -منذ تولى الجيوشى مسئولية وزارة النقل- قامت بالتفتيش على 723 مركبًا تعمل في النيل، وإيقاف 180 مركبًا مخالفًا» ولا ينسى أن يرفع شعارات الوزارة عاليًا في مناسبة كهذه: فها هو يؤكد أن «الوقاية أفضل وأرخص من العلاج»، ويلفت إلى أهمية «الاستعداد الدائم للأحداث لمنع وقوع الكارثة قبل حدوثها».

وهو بالطبع أستاذ في مدرسة- الحكومة المصرية ووزرائها الذين يحبون توبيخ الناس وإيقافهم عن العمل- لذلك يعتقد أن تصريحه بإيقاف مراكب عن العمل عبقرية، غير مدرك أنه دليل إدانة لأن إيقاف مراكب عن العمل من دون خطة واضحة تتضمن توفير بديل مناسب يعني أن الناس سوف تجتهد في ابتكار حلول كارثية- بأنفسهم- بديلًا للحلول الكارثية الحكومية!

أما رئيس مجلس وزراء مصر فقد استهل تصريحاته بالمطالبة بفتح تحقيق عاجل لمحاسبة المسؤولين عن الحادث!

لم يضيع الرجل وقته بالتوجيه بوضع خطة عاجلة ومنطقية ومعلنة لتطوير النقل النهري وتخليصه من أسباب العشوائية، لن أقول تخليصه من العشوائية، لأن حكومة مصر سوف تظل عشوائية إلى أن تدرك أن التخلص من العشوائية لن يكون إلا بالقضاء على أسبابها. وفي حالتنا هذه – لكي لا يتهمنا المتحدث الرسمي بعدم تقديم حلول عملية- فإنني أهمس في أذنه بأن سبب لجوء الناس إلى قارب عشوائي هو عدم توفير وزارة النقل لوسيلة نقل في النيل رغم –معرفتها- (.. . عدم المعرفة هنا كارثة في حد ذاتها) أن أهالي هذه المناطق لا يستغنون عن وسيلة نقل نهرية.

لم يفكر رئيس الحكومة بهذ الشكل الفانتازي طبعًا وأراد أن يكون عمليًا ومباشرًا فطالب بالتحقيق العاجل. وما أدراك بالتحقيقات في الحكومة المصرية خاصة إذا وصفها المسؤولون بالعاجلة. كما لم ينس بالطبع أن يشير إلى صرف تعويضات للموتى وللمصابين «عشان محدش يزعل».

من المضحكات المبكيات أن وزارة النقل- في محاولة التخلص من المسؤولية- نفت في تصريحها وجود مراكب تابعة لها في هذه المنطقة الآن، مؤكدة في تصريحات رسمية أن «المراكب الثلاثة التابعة لها متحفظ عليها جميعا في شرطة المسطحات المائية، بعد أن قامت هيئة النقل النهرى بإيقافها لعدم صلاحيتها في العمل في نهر النيل (. . .)»!

لا تسأل منذ متى، ولا داعي لأن تتطاول وتقول: أليس من مسؤوليات وزارة النقل توفير البديل؟ فهذه أسئلة تدخل في باب محرمات الثقافة المصرية الرسمية.

خذ الأخيرة واضحك وأنت تمسح دموع الحسرة على أولادنا الذين تتفنن الحكومة في تقديمهم قرابين لآلهة الإهمال؛ يقول المتحدث نفسه باسم وزارة النقل -وهو في وسط كارثة راح ضحيتها 15 إنسانًا بسبب إهمال وزارة النقل في توفير وسيلة نقل نهرية في منطقة نهرية، يقول: «كان من أهم أولويات وزير النقل إنشاء هيئة للأمن والسلامة على غرار مثيلتها في الطيران المدنى تكون مهمتها التأكد من توافر احتياطيات الأمن والسلامة في كل قطاعات الوزارة التي تتعامل بشكل مباشر مع أرواح المواطنين، وكذلك إنشاء مركز لإدارة الأزمات يكون على استعداد دائم للأزمة قبل وقوعها ثم إدارتها للتخفيف من آثارها».

أقول للمتحدث الرسمي باسم الفشل، يبدو أن قدوة وزارتك هي بوحه الصباحي لأنه الوحيد في العالم الذي يسلخ قبل أن يذبح.

وتحيا مصر.

waleedalaa@hotmail.com