تأسست دولة كوريا الجنوبية عام 1948، بعد تاريخ مؤلم من الاستعمار اليابانى، استمر من عام 1904 عندما أعلنت اليابان الحرب على الإمبراطورية الروسية، حيث كانت شبه الجزيرة الكورية هي مسرح الحرب بالكامل، وانتهى بهزيمة اليابان واستسلامها عام 1945، وفى عام 1950 بدأت حرب أهلية بين شطرى كوريا الشمالى (تحت سيطرة الأتحاد السوفيتى والصين) والشطر الجنوبى (تحت سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية) وأستمرت الحرب حتى عام 1953 وانتهت بتقسيم شبه الجزيرة الكورية إلى دولتين بالإضافة إلى مقتل 1.2 مليون كورى، وقدرت الأضرار الناجمة عن الحرب بحوالي 69 مليار دولار، أي ما يعادل خمس مرات الناتج الإجمالي لكوريا الجنوبية في ذلك التاريخ، إضافة إلى تدمير ربع البنية التحتية لكوريا الجنوبية في الحرب، وكذلك تدمير 40% من الوحدات السكنية تدميرًا كاملاً و46.9 % من شبكة السكة الحديدية و500 كيلومتر من الطرق والقناطر و80% من محطات توليد الكهرباء، وتراجع دخل الفرد في كوريا الجنوبية من 80 إلى 50 دولارا سنوياً، حيث صنفت كوريا الجنوبية كواحدة من أفقر دول العالم في هذا الوقت، وبالتالى أصبحت تعيش على المساعدات الخارجية بشكل كامل، ودخلت البلاد في مرحلة من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية.
بعد نهاية الحرب دخلت كوريا في فترة من عدم الاستقرار السياسي والتعديلات الدستورية المتكررة والمظاهرات الطلابية، أنتهت بانقلاب عسكري في 16 مايو 1961 بقيادة قائد عسكري شاب أسمه بارك تشونج هي الذي اعتمد في التنمية على ما يسمى اصطلاحاً باسم الأقتصاد المعرفى واستخدمه للانتقال من اقتصاد الندرة والفقر والتخلُّف إلى اقتصاد الوفرة والرفاه والتقدُّم، ذلك إن التحوّل الصناعي يضاعف من أسعار المواد الخام ويكسبها قيمة مضافة، كما أنه يخلق وظائف ضخمة جداً وبذلك يقضي على البطالة بدرجة كبيرة، وعندما تكون استراتيجية التحوّل الصناعي هي استراتيجية العمالة المكثفة (Labor- Intensive) فإن ذلك معناها الاقتراب من درجة التشغيل الكامل للقوى العاملة الوطنية (الشباب) وهذا من شأنه أن يحارب الفقر ويرفع من دخول الأفراد.
مزجت السياسات التنموية الكورية بين تخطيط الدولة المركزي ونظام السوق وتم التركيز على التعليم وعلى بناء البنية التحتيه لكوريا حيث تم إنشاء شبكة طرق حديثة ومتطورة رغم الطبيعة الجبلية الصعبة لكوريا، كما تطورت شبكات السكك الحديدية وإزالة العشوائيات من سيول العاصمة، وبناء شبكة مترو أنفاق حديثة.
أما في التعليم فقد أنشأت جامعتين للتعليم الفنى متميزتين الأولى هي معهد كوريا للعلوم والتكنولوجيا (1966) والثانية هي معهد كوريا للتنمية (1971) وبنى الجنرال باراك وحكومته خطط للتنمية على ثلاثة محاور أساسية:
- المحور الأول هو التركيز على صناعات لها قدرة تنافسية عالية مثل الإلكترونيات وصناعة السيارات وبناء السفن وصناعة الحديد والصلب والصناعات الكيماوية.
- المحور الثانى هو التصدير وفتح أسواق جديدة وتأسيس هيئة ترويج التجارة الكورية بهدف توسيع أسواق المنتجات الكورية بالخارج كما قامت الحكومة بتخفيض قيمة العملة، واستبدلت نظام تعدد أسعار الفائدة بنظام سعر الفائدة الموحد، وأعفت المواد الأولية الداخلة في الصناعات المحلية من الرسوم الجمركية وأسست بنك التصدير والاستيراد في عام 1969 من أجل توفير التمويل اللازم للصناعات الكورية، ولم تكتف الدولة بذلك بل أشركت رجال الأعمال والمصدرين في مؤتمرات دورية بهدف مساعدتهم في كيفية مواجهة الصعوبات التي تكتنف عملية ترويج وتسويق صادراتهم في الأسواق الخارجية .
- المحور الثالث هو نظام الحوافز Chaebol للأفراد والشركات الصغيرة والمتوسطة للتشجيع على الإندماج وتكوين كيانات صناعية وشركات كبيرة برأس مال وطنى وهو ما أدى لتأسيس ستة شركات وطنية عملاقة أستأثرت بنصيب الأسد من التمويل المالي من البنوك الوطنية بمعدلات فائدة منخفضة، إلى جانب رأسمالها الخاص بها. كان الغرض من هذا الاندماج هو بناء اتفاق كامل بين الدولة والقطاع الخاص بل التوحد الكامل بينهما على تحقيق الهدف القومي الأعلى وهو أن تلتحق كوريا الجنوبية بنادي الدول المتقدمة.
كما اتبع سياسة للتحفيز المادى والأدبى للشباب الذين يسعون بنشاط وهمة عالية للعمل وينجزون الأعمال في أسرع الأوقات وعلى درجة عالية من الجودة، مما ساعد على تحوّل عمال كوريا الجنوبية من حالة إدمان الفشل والتسيُّب والفقر ومعاقرة الخمور والمسكرات وكذلك الانغماس في لعب القُمار لمعظم أوقات السنة إلى عمالة وطنية تنشد إتقان العمل وتكثيفه والاجتهاد والمثابرة في خدمة الوطن والأمة، كما تم إرسال عمال المناجم والمصانع الكبيرة إلى البلاد الأوروبية (خاصة ألمانيا) واليابان لمزيد من إتقان العمل والانخراط في المشروع النهضوي الكوري الجنوبي ويعتبر منهج «بناء القدرات «Capacity Building» في شتى أنواع المهن والأعمال سببا رئيسيا في التحوّل الصناعي الكوري الجنوبي.
كما تمت زيادة الإنفاق الحكومي على البحث العلمي المرتبط بالتنمية الصناعية والبحوث وتطوير المنتجات واعتبار البحث العلمى هو على رأس أولويات الدولة، وكان هذا الإنفاق يعادل أكثر من ثلاثين في المائة من الدخل القومي (معدل الإنفاق على البحث العلمى في مصر 4% من الدخل القومى) وهذا جزء هام جدا من مفهوم «الأقتصاد القائم على المعرفة» وكان البحث العلمي يندمج ويتسق مع استراتيجية الدولة في التحوّل الصناعي وبناء القدرات الفنية المتميزة والذي كان واحداً من أعظم أسرار التطور المذهل الذي أحدثته كوريا الجنوبية في عقدين فقط من الزمان حيث أصبحت كوريا تحتل مراتب عالية في الاقتصاد العالمي، حيث تأتي كوريا في المرتبة الثانية في صناعة السفن، والمرتبة الرابعة في صناعة النسيج الاصطناعي، وعلى مستوى الصادرات جاءت كوريا في المرتبة التاسعة، وأصبحت ثالث منتج لأشباه الموصلات، وسادس منتج للسيارات، وثامن منتج للأجهزة الرقمية، وتاسع منتج للصلب والبتروكيماويات. أما الأهم فهو أن دخل الفرد ارتفع من 50 دولارا سنوياً عام 1953 إلى 33 ألف دولار سنوياً عام 2014 .
إن العامل الأهم في تحقيق معجزة نهر هان كانج أو تجربة كوريا الجنوبية في التنمية وانتقالها إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى هو اتفاق الجميع في كوريا أن الوطن فوق الجميع مهما اختلفنا سياسياً كما أن الحكومات الكورية الجنوبية المتعاقبة وابتداء (بارك جونغ هي) حتى الآن، اعتمدت التخطيط كمنهاج لإدارة التنمية وخيار دعم القطاع الخاص وتوسيع دوره ظل خياراً ثابتاً بدون تغيير أو تبديل، كما أن الاعتماد على الشباب ودعمهم وبناء قدراتهم وتنظيمهم في مؤسسات تساعدهم على النجاح وعلى الابتكار كان هو السر الحقيقى لنجاح تجربة كوريا الجنوبية في التنمية، خلاصة القول إن التجربة الكورية سواء على مستوى النهوض أو على مستوى تجربة إعادة الإعمار بعد الخروج من حرب مدمرة مثالاً يبرهن على أن الإرادة السياسة والرؤية والتخطيط الاستراتيجى بعيد المدى وحسن إدارة الموارد هو من يصنع دولا متقدمة بشكل حقيقي.