دبى وصناعة الأسطورة

إبراهيم الجارحي الأحد 03-01-2016 21:24

وقف برج فندق «العنوان» وسط دبى ودخان الحريق الذى وصل لهبه من الأرض إلى قمته المضيئة دائما يتصاعد إلى السماء، بينما تنطلق الألعاب النارية المبهرة من كل مكان فى وسط المدينة إيذاناً ببداية العام الجديد.

واكتظ مركز دبى ومحيطه على مسافة عدة كيلومترات بملايين السياح والسكان وقوفا وجلوسا ومن نوافذ الفنادق والبنايات ليشاهدوا عرض الألعاب السنوى الذى أصبح مشهدا يتابعه العالم، وينتظر جديده مما تستحدثه دبى دائما من وسائل الإبهار.

لكن الحريق شب فى الفندق الأطول فى العالم قبل سويعات من بداية الاحتفال، وبدا من المتوقع والمنطقى أن تلغى دبى ألعابها النارية مادامت النار قد اشتعلت بهذا الحجم الهائل فى قلب موقع الاحتفالات الذى لم يعد ينقصه المزيد من المواد المشتعلة المتطايرة، ولا من الأبخرة الكبريتية السامة، لكن دبى ما كانت لتفوت فرصة ذهبية كهذه أبدا.

المعتاد هو أن دبى تستخدم كل مناسبة ممكنة لإبهار العالم وإقناعه أنها مدينة فوق العصرية وفوق المتطورة وفوق المتحضرة، وهذا هو الحلم الذى أنشئت فوقه أركان المدينة، أن تصبح مدينة عصرية على القياسات العالمية وما فوقها، وهو ما جعل للدعاية حصة كبيرة فى معادلة البناء والتنمية فى دبى.

قررت دبى استمرار الاحتفالات، وانطلقت الألعاب النارية فى موعدها تماما مستقبلة العام الجديد، وقبلها انطلقت فرق الإنقاذ والإطفاء والإسعاف إلى الفندق المشتعل، وبدلاً من أن يتحول الأمر إلى كارثة، تحول إلى وسيط جديد من وسائط الدعاية لأسطورة هذه المدينة التى لا يتوقف صعودها عند القمة، وإنما يعنى وصولها للقمة أنها تستعد لمنافسة نفسها على قمة جديدة.

وكما توقعت دبى تماما، توجهت الأنظار كلها من عرض الألعاب الذى وعدت العالم أنه سيكون استثنائيا ككل سنة، إلى عرض القدرات الذى قدمته فى إخلاء وإطفاء وتأمين المبنى وسط حالة من الزحام والتأهب، وتحت أضواء الكاميرات التى بثت الحدث إلى كل أركان الدنيا.

جرى إخلاء الفندق المكون من ثلاثة وستين طابقا، وكذلك إخلاء دبى مول، المركز التجارى الأضخم فى العالم، خلال دقائق، ودون وقوع أى خسائر بشرية، وهذه معجزة فنية إذا ما وضع فى الاعتبار أن دبى مول وحده يستقبل ليلة رأس السنة ما يزيد على المليون زائر، إضافة إلى مئات الآلاف الآخرين الذين يتوافدون على هذه المنطقة من المدينة مبكرا قبل إغلاقها استعدادا للاحتفالات.

وتمكنت فرق الدفاع المدنى من إخماد الحريق بعد السيطرة على اللهب الذى انتشر على واجهة من واجهات الفندق رأسياً وبسرعة كبيرة نظرا لسرعة الرياح فى هذه الليلة، وحوصرت النيران فى قطاع خارجى من الفندق دون أن تمتد إلى داخله، ولولا هذه الإدارة المحترفة لعملية الإطفاء لأتت النار على هذا الفندق، الذى تكلف نحو مليار دولار عند بنائه، عن آخره.

ولتكتمل عناصر الإبهار، قفز أحد أبناء الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبى، إلى ملابس الدفاع المدنى، وألقى بنفسه وسط رجال الإطفاء يعمل معهم يداً بيد فى السيطرة على الكارثة.

وخرجت صحف العالم فى اليوم التالى تتحدث عن كفاءة دبى فى التعامل مع الكارثة، وعن كفاءة دبى فى تنظيم الاحتفالات رغم حالة الطوارئ الشديدة، وبالطبع عمرت هذه الصحف بصور الأمير الشاب الذى تلطخ وجهه بسخام الحريق بينما كان يشارك قوات الإنقاذ عملهم، لتتم الصورة بأفضل مما يحلم أى مدير دعاية وإعلام.

ولو كانت دبى تبحث عن فرصة كهذه لسارعت قيادتها بنفسها إلى إشعال النار فى البرج بنفسها رغم الخسائر المادية الكبيرة، فالمكاسب المعنوية والمادية بالتبعية أكبر بكثير فى وقت تستعد فيه دبى لاستقبال معرض إكسبو العالمى فى 2020، وهو وقت تحتاج فيه المدينة إلى إثبات كفاءتها فيه أكثر من أى وقت.

هكذا المعجزات التى تصنع على الأرض لا المعجزات التى تنتظر الشعوب أن تأتى من السماء، وهكذا الفارق الحقيقى بين الأسطورة التى تتحقق بالعمل، وبين الخرافة التى لا تتجاوز نسيج الكلمات.