محكمة.. رُفِعَتْ النهضة

وجيه وهبة السبت 02-01-2016 21:24

«للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين فى التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى».

منذ تسعين عاماً، فى شهر مارس من العام ٢٦ من القرن الماضى، وفى صفحة ٢٦- مصادفة رقمية- وردت هذه الكلمات القليلة فى كتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى». كانت تلك الكلمات هى الشرارة الأولى التى أشعلت حرباً هستيرية، تعددت وتنوعت أسلحتها ومعاركها، فى السر والعلن، ولم تضع أوزارها إلا بقرار حكيم من رجل نيابة قانونى محترف، اسمه- بالصدفة أيضاً- «محمد نور»، حفر اسمه بحروف من نور فى تاريخ وطنه وتاريخ مهنته. «فى الشعر الجاهلى»، هو عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها طه حسين على طلابه فى كلية الآداب، تبنَّى فيها منهج الشك الديكارتى فى البحث فى قضايا ما يسمى «الشعر الجاهلى وانتحاله ولغته». أثار صدور الكتاب غضب بعض أعضاء مجلس النواب، الذى كان رئيسه سعد زغلول. عقَّب سعد باشا على الكتاب بالتطاول على طه حسين، ووصفه بأوصاف وكلمات لا تليق. تلقى النائب العام عدة بلاغات تتهم طه حسين بـ«الطعن الصريح فى القرآن» (بلاغ الشيخ خليل حسنين)، و«بالطعن والتعدى على الدين الإسلامى» (بلاغ عضو البرلمان عبدالحميد البنان). وبتاريخ ٥ يونيو- يوم النكسات.. صدفة ثالثة- تلقَّى «النائب العمومى» بلاغاً من شيخ الجامع الأزهر «أبوالفضل الجيزاوى»، متضمناً تقريراً من علماء «الجامع الأزهر» يطلب اتخاذ الإجراءات القانونية الناجعة، ومحاكمة «طه حسين»، حيث إنه فى كتابه «فى الشعر الجاهلى» قد «كذَّب القرآن صراحة»، وطعن على النبى، وعلى نسبه الشريف. عاد طه حسين من إجازته السنوية خارج البلاد، فى شهر أكتوبر، حيث بدأ محمد نور، رئيس نيابة مصر التحقيق معه. فى العام التالى عام ٢٧، وفى ٣٠ مارس- آخر صدفة- أصدر محمد نور قراره التاريخى، الذى اختتمه بالفقرة التالية: «وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها، فى بعض المواضع من كتابه، إنما قد أوردها فى سبيل البحث العلمى، مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر، ولذلك تُحفظ الأوراق إدارياً».

محمد نور

رئيس نيابة مصر

٣٠ مارس ١٩٢٧

المهن ونهضة الأمم: تتأخر الأمم بمقدار تدهور المهن.. كل المهن بلا استثناء، وحين يندر العثور على سباك كفء أو نجار كفء، أو طبيب كفء، أو معلم كفء، فسيصعب أيضاً العثور على ضابط كفء، قاض كفء، مهندس كفء.. الخ. إنها نظرية الأوانى المستطرقة، ونحن فى مجتمع أصبح الطبيب فيه شيخاً يعظ، والشيخ أصبح طبيباً يعالج، ونحن فى هذه القضيةـ أيام العهد البائد والاستعمارـ أمام ممثل اتهام على أعلى درجات الحرفية المهنية، رجل نيابة بقامة القضية المنظورة و«المتهم» الماثل أمامه، علماً وثقافةً وأدباً، فقراءة تفاصيل قراره بحفظ القضية تبين عن مدى استغراقه ودراسته الدقيقة لكافة جوانبها، وربما لو كنا قد قررنا تدريس هذه القضية بكل ملابساتها فى كليات الحقوق، لكنا قد تحاشينا الكثير من الزلل. الجليل محمد نور حصر نقاط الاتهام بالطعن على الدين الإسلامى فى أربع نقاط، وفقاً للبلاغات السابق ذكرها، وهى فى إيجاز: ١- إهانة الدين الإسلامى بتكذيب القرآن فيما يتعلق بإبراهيم وإسماعيل. ٢- قوله إن القراءات السبع ليست وحياً من الله، وإنما قرأتها العرب حسب ما استطاعت.٣- الطعن الفاحش على نسب النبى وتحقيره. ٤- إنكاره أن للإسلام أولوية فى بلاد العرب، وأنه دين إبراهيم. قام محمد نور باستجواب طه حسين ومحاججته وبطريقة تبين عن موضوعية وصرامة العدل الذى لا تشوبه شبهة لين الهوى. ولبيان تلك الصرامة الموضوعية، إليك بعض ما ورد من عبارات فى قراره بالحفظ. فى سياق الحديث عن الاتهام الأول، بعد الإسهاب فى البحث والمقارنات يقول «نور»: «إن المؤلف فى هذه المسألة يتخبط تخبط الطائش...». أما عن الاتهام الثانى الخاص بالقراءات السبع فيخلص «نور»، بعد درس وفحص، إلى «أن ما ذكره المؤلف هو بحث علمى لا تعارض بينه وبين الدين، لا اعتراض لنا عليه». وعن الاتهام الثالث الخاص بنسب النبى، فإنه بعد استعراض موجز لرأى «المؤلف»، يقول «نور»: «ونحن لا نرى اعتراضاً على بحثه على هذا النحو، وإنما كل ما نلاحظه عليه أنه تكلم فيما يختص بأسرة النبى ونسبه فى قريش، بعبارة خالية من كل احترام، بل وبشكل تهكمى غير لائق، ولا يوجد فى بحثه ما يدعو لإيراد العبارة على هذا النحو». أما عن الاتهام الرابع فقد اقتنع «نور» بمراد طه حسين من العبارة بعد الاستماع لتفسيره، ولكنه أردف: «ولكننا نرى أنه كان سيئ التعبير جداً فى بعض عباراته...». بعد ذلك قام «نور» بتفنيد الأركان الأربعة للجريمة، وفقاً للدستور والقانون- «دستورالعهد البائد»، دستور٢٣- والمادة ١٢ منه، حيث «حرية الاعتقاد مطلقة». وأخيراً، اتخذ قراره بالحفظ، ضارباً بعرض الحائط طلبات شيخ الأزهر وعلمائه وأعضاء البرلمان. إنه العدل الناجم عن اقتران القدرات المهنية الرفيعة بالضمير الحى.

■ إسلام بحيرى.. ازدراء الإنسان، جريمة أخطر وأوضح للعيان من تهمة مطاطية تسمى «ازدراء الأديان»

■ طه حسين.. رأى القاضى أنه شكَّك فى وجود أنبياء، وتهكَّم على أنبياء، ومع ذلك لم يُدِنْه.

إسلام بحيرى، حسبما أعلم، انتقد وشكك فى أقوال بعض «الرجال»، فأدين. إسلام بحيرى، حسبما أعرف، مصرى غيور على دينه ويمارس فرائضه، ولكن يبدو أنه جاوز حدوده، وأعمل عقله، وناطح بعضاً من سدنة الأزهر. والأخطر والأضل سبيلاً أنه قد خطف جمهوراً كبيراً منهم، ومن أصحاب الأفق الضيق من نجوم «الدعوة».

■ لدىَّ شعور أننا مازلنا نعيش فى يوم ٥ يونيو عام ١٩٢٦، وفى انتظار «نور» ٣٠ مارس ١٩٢٧. هانت، فركة كعب، كلها تسعين سنة للخلف، ونبقى فى وضع أفضل.