كتبتُ عن إسلام بحيري عدة مقالات، في آخرها وضعتُه هو و«التّت» في جملة واحدة أصفُ بها حالَ الجيل، فقلت على لسان رجل يخاطب شابًا جادَلَه: «صحيح، جيل بحيري والتت!».
والتت -لمن لا يعرف- هي موسيقى راقصة، ارتبطت في أذهان الناس برقصة نسائية فيها مبالغة في هزّ الوسط والأرداف، وهي نموذج للرقص عندما لا تكون له هوية ولا يرتبط بذوق أو فن، فيصبح عهرًا.
فلماذا يكون إسلام بحيري مرادفًا للتت في جملة واحدة تصف حَجَريّ الرحي اللذين يطحنان الجيل، بينما المتوقع أن أضع في مقابل «التت» التيارات الدينية المتطرفة، التي يبدو للناس أن إسلام بحيري يحاربها، فيكون الأمر بين العهر من ناحية والتزمت من أخرى؟
هذا تحديدًا ما أجبت عنه في أولى مقالاتي عن بحيري، وكان قد تحول إلى ظاهرة وبات الشغل الشاغل للإعلام، إلا أنه لا أحد من متابعيه -أو حتى منتقديه- انتبه إلى أنه لا يفعل سوى استبدال كراهية بكراهية؛ «فطريقته لا تختلف كثيرًا عن الطريقة التي تعمل بها عقول «الظلاميين» الذين يقول إنه يحاربهم، والخطاب الذي يتبناه لتنبيه الناس إلى مخاطر هؤلاء الظلاميين، يقوم في أساسياته على العناصر نفسها التي يقوم عليها خطابهم: التحقير والتقليل من شأن الآخر المختلف، والتعبير عن الكراهية والبغضاء له، انطلاقًا من توهم امتلاك اليقين، كما أن أدواته تقريبًا تشبه أدواتهم: الصوت العالي والنبرة الحادة والتعالي والسخرية التي تصل أحيانًا إلى قلة الذوق والإهانة».
وقد اعتبرت –شخصيًا- أن بحيري أشد خطرًا من دعاة الكراهية باسم الدين، لأن حربنا معهم قد تُحسم – ولو على مدى طويل- عبر استدعاء المنطق في نفوس الناس ليفرّقوا بأنفسهم بين ما هو من الدين -وبالتالي من الأخلاق والإنسانية- وما هو متستر في رداء الدين ولا يمكن أن يكون من الأخلاق والإنسانية.
لا نريد – تحت إلحاح حربنا مع أصحاب العقول المغلقة باسم الأديان- أن يفقد المجتمع إيمانَه بمنظومة القيم والأخلاق التي تنطوي عليها الأديان، فنسبة كبيرة من البشر لم تدرك –حتى الآن- أن القيم الإنسانية الكبرى والجمال والأخلاق ومعنى الضمير وغيرها من مقومات نجاح الحضارات وعمران الكون ليست حكرًا على الأديان، لذلك إذا سقطت علاقتهم بالدين، فقدوا بوصلتهم الإنسانية والأخلاقية، ولم يعد لديهم ضمير يردعهم عن حقوق الآخرين أو يدعوهم للتعاطف معهم. وهنا خطورة الأمر.
إسلام بحيري لم يكن داعية أخلاق وقيم وحضارة، بل هو داعية كراهية، يسعى إلى تمرير كراهية الآخر المختلف- بدعوى أن هذا الآخر داعية كراهية! وبذلك فقد حاد بوضوح عن نهج دُعاة القيم والأخلاق الذين لا يعرفون في الأصل الكراهية، فلا يكرهون دينًا ولا يناصبون أحدًا العداء لرفضهم لأفكاره، ولا يدّعون امتلاكهم يقينًا يقابل يقين الآخرين لدرجة التماهي مع يقينهم والرغبة في التخلص من الآخرين بما يحملونه من يقين.
فماذا يفعل دعاة القيم والأخلاق إذن، هل يصمتون!
لا، إنما يتعلمون ويكتبون ويجادلون ويناقشون، وهم كثر، ومعظمهم مؤمن بالأفكار نفسها التي عبّر عنها بحيري، فهو لم يبتكرها، إنما ليس بهدف إقناع الناس بتحويل مسار الكراهية، ولا دعوتهم إلى دين جديد، إنما لنقل طريقة التفكير إليهم، على مبدأ «لا تعطني سمكة ولكن علمني الصيد» طموحًا إلى حالة راقية من عدم فرض تصور أحد على آخر، وصولًا إلى نموذج حقوق مستمَد من الأطر العامة للأخلاق والقيم الإنسانية التي لا تتعارض أبدًا مع الأديان، يكون كل فرد فيه حرًّا في ما يعتقد وما يمارس، طالما أنه قد سَلِم الناسَ من شره وأذاه.
ربما نقول أن بحيري – خاصة في المناقشات التي أُعدّ لها في الإعلام- قد تم استدراجه ليبدو غاضبًا كارهًا وعصبيًا، لأن النماذج التي كان مضطرًا لمناقشتها تُجيد لعبة توريط الآخرين في هذا المظهر. ولكن –للأسف- لم يقتصر ذلك على تلك النقاشات، إنما كانت الكراهية والبغض هي السمة الرئيسية لخطابه سواء في حلقات برنامجه، أو في ما نجحوا في تسريبه له من لقاءات خاصة كان يعقدها في النوادي أو المؤسسات. بدا وضحًا أنه يروج لكراهية بديلًا لكراهية. طب وهو إحنا ناقصين!
إذن، في رأيي ليست هذه هي الطريقة التي نريدها لتجديد الخطاب الديني، تجديد الخطاب الديني لن يتم إلا بعد أن تتخذ الدولة عدة نقاط، أولها: التخلص من تحالفها التاريخي مع المؤسستين الدينيتين الأهم: الأزهر والكنيسة، والتوقف عن السعي لكسب رضاهما، أو استخدامهما كأداوات لكسب معاركها مع أطراف أخرى على حساب ثقافة ووعي الشعب. فلابد إذن من إعادة النظر في دور كل منهما ووضعه في حدوده الضرورية.
ثانيًا: لا تعليم خارج مؤسسة التعليم المعنية به. وأن يرتبط التعليم بصفة عامة بتصور دقيق عن مستقبل الناس والبلد في علاقتها بالعالم وتطوراته.
ثالثًا: إذا كنت قد وضعت قانونًا يجرم ازدراء الأديان باعتبارها عقائد مواطنين تستحق الاحترام، فعليك أن تضع قانونًا يحمي المواطنين الآخرين ممن يظنون أن مهمتهم في الحياة إقناعهم بتصورهم الخاص عن هذا الدين أو ذاك، بل أحيانًا يفرضونه عليهم، وهو أمرر يبدأ بمراجعة أدوار المؤسسات التي تمارس هذا الأمر باعتباره حقًا مشروعًا لها -ومنها وسائل إعلام ومؤسسات دعوية وغيرها، فربما يكون الازدراء رد فعل للفرض ومحاولات الاقتحام! فإما أن تلغي تجريم الازدراء أو أن تضع قانونًا لتجريم الممارسات التي تتسبب فيه.
رابعًا، وهو الأهم: هل شاهدتم رجلين يتصارعان، بينما كل منهما، ولا حاجة لأحدهما لدى الآخر يمتلك حجبها أو منحها من دون معايير واضحة، وكلاهما آمن ماديًا، ومكتف معنويًا بتقديره كمواطن في بلد لا يفرق بين مواطنيه، ولا يأخذ أحدًا برأي عبر عنه أو فكرة اقترحها؟
لا أظن، إلا إذا كانا مجنونَين أو بينهما ثأر شخصي، فالأهم من كل شئ وقبل كل تجديد لخطاب ديني، إشاعة العدل بين الناس وتوفير فرص التساوي بينهم أمام القضاء والعمل والمرض والسفر والزواج والطلاق والراحة والترفيه، و... وهذا الدور لا يبدأ إلا من الدولة، هي من تخطط له وتضع أهدافه وتحدد أدوار الأطراف الأخرى في المجتمع ومؤسساته، وتديره وتتابع تطوره وتُصلح من أخطائه وفق رؤية متكاملة.. . للأسف أظنها حتى الآن غائبة.
يبقى السؤال: أنت مع حبس إسلام بحيري وإلا ضده؟
إذا كانت إجابة السؤال لم تصلك بعد، فأرجوك اقرأ من الأول.
وكل عام وأنتم بخير.
waleedalaa@hotmail.cim