تأصيل علمى لظاهرة القبح!

أحمد الجمال الثلاثاء 29-12-2015 21:32

أبرز ما جاءنى من تعقيبات وتعليقات على مقال الأسبوع الفائت، حول ظاهرة تفشى القبح والسفالة فى بعض الفضائيات، هو ما كتبه السيد أحمد لطفى، كبير معلمى فيزياء الطيران، والمستشار السابق للشركة البريطانية للطائرات العسكرية.

وقبل أن أفسح المجال لسطوره وكلماته، أود الإشارة إلى الإشادة منى لما أتعلمه منه، لأننى أجد نفسى متلقيا لمعلومات جادة جديدة ولأسلوب كانوا يعلموننا فى زمن التلمذة أنه «العلمى المتأدب».. ولعلى هنا أؤكد أن كل ما أتلقاه من تعقيبات وتعليقات- سواء اختلف معى أو اتفق، وأحيانا يصل الخلاف إلى حد جذرى- هو ظاهرة صحية أعتز بها، اعتزازى بالكتابة بـ«المصرى اليوم» التى مازال لها- من وجهة نظرى- دور مهم فى تكوين الرأى العام واستنارته عبر «الديالوج» بين كتابها ومحرريها وبين قارئيها.

إننى لا أريد أن «أحرق» ما كتبه السيد أحمد لطفى، ولا أريد أيضا أن أفسده دون أن أدرى إذا حاولت تلخيصه أو كتابة مقدمة له.. فإلى سطوره:

مساء الخير..

بداية كل عام وأنتم بخير، فها هو مولد رسولنا الكريم فى ذكراه يعانق مولد أخيه عيسى عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة والسلام، ثم ها هى سنة تلملم أوراقها وتستأذن فى الرحيل مخلية العمر والزمن لسنة جديدة، نرجو من الله سبحانه وتعالى أن تكون أفضل من سابقتها وأكثر تلطفا بنا وتحنًا علينا.

وعلى مقالك حول «قبح هنا.. وضلال هناك» وما أثرته فى المسألة الأولى، عندى تعقيب وإضافة، فظاهرة القبح والسفالة التى باتت تسود بعض الفضائيات وتجرى على ألسنة مذيعيها جريان الماء فى الحلوق، والتى أكدت فيها على بديهية أن التعميم فى الأحكام واتخاذ المواقف خطأ يصل أحيانا إلى حد الخطيئة! كما قلت نصا فى المقال، وهو صحيح تماما.

واقع الحال يا سيدى يحتّم علينا أن ننظر للمشهد من زاوية أكثر اتساعا وشمولا، فالإعلام، وأنت خير العالمين العارفين بأموره وما يجرى فى أروقته، ما هو إلا مرآة للمجتمع وما يدور فيه ويحدث فى جنباته، فالقائمون عليه والعاملون فيه ومن يدعمونه بالتمويل- سواء من أصحاب الفضائيات أو وكالات الإعلان- كل هؤلاء من المجتمع ويعيشون فيه، ويعملون بالحاكم من قوانينه، والسائد من أعرافه. إذن لا غرابة فيما تقرأ وتسمع وتشاهد من بذاءات وسفالات وخروج عن المألوف أخلاقيا والغالب قيميا.

طيب، سأبتعد أنا قليلا عن هذا المستنقع الشائك، وأحدثك عن «ظاهرة البذاءة»، التى غزت- ومازالت تسود- المجتمع المصرى بشكل وبائى، وأرجعها لأصلها وخلفيتها التاريخية وأصولها العلمية الطبية، وهى ما تعرف بـ«متلازمة توريت –Tourette syndrome».

تظهر أعراض هذا المرض فى صورة اضطراب مزمن فى الحركة، تميزه لوازم (جمع لازمة) حركية أو صوتية تصدر من المريض نفسه، هنا يفقد المريض كل القدرة على التحكم فى ما يخرجه من حركات وألفاظ هى فى كثير من الأحيان ألفاظ نابية وبذيئة.

ومما لا شك فيه أن للبذاءة أشكالا وأنماطا، بذاءة القول مثلا هى أحد هذه الأنماط ولكن ليست وحدها، فهناك أيضا سلوكيات أقل ما توصف به أنها بذيئة، بداية بمقاطعة الكلام وليس انتهاء بمهاجمة المتحدث والتهكم على الحديث والسخرية من المتحدث، ناهيك عن التعليقات التى تقرؤها على آراء الآخرين فى مواقع التواصل الاجتماعى والتى صارت فى كثير منها، مجالا لتبادل البذاءات اللفظية والسباب. يشعرك هذا بأن لهؤلاء الأنطاع الأبذياء «جينات» مختلفة، تحمل من «كروموسومات البذاءة» بأكثر مما تحمل من صفات الوراثة.

دعنى أحكِ لك قليلا عن هذه المتلازمة المرضية المعروفة بمرض «توريت- Tourette syndrome». ففى العام 1884 وصف الطبيب الفرنسى «جيل دولا توريت– Gilles de la Tourette » تسعة من المرضى يعانون مرضا وراثيا غريبا، تمثلت أعراضه فى متلازمة قهرية من التقلصات العضلية والسباب البذىء جدا، الدكتور «توريت» وصف هذا المرض الذى كانت الماركيزة العجوز الوقور «دى دامبريير – Marquis de Dampierre »، تعانى منه، وتأتى بحركات غريبة بعضها قبيح جدا، مع كثير من السباب، وقد بدأ المرض عندها منذ أن كانت فى السابعة.

الحقيقة أن ثمة شواهد تاريخية سابقة لاكتشاف هذا المرض، فقد لوحظ أن رجلا من النبلاء الفرنسيين- لا تسعفنى الذاكرة المهترئة باسمه الآن مع الأسف- كانوا يقيدون يديه خلف ظهره كى لا يأتى بحركات بذيئة بإصبعه فى حضرة الملك لويس الرابع عشر- Louis XIV (1638 – 1715)، أى أنه كان مصابا بالمرض نفسه قبل أن يعرف الطب اسمه.

أما عن السباب والكلام البذىء فى كل مناسبة ودون ما داعٍ، فهو عَرضٌ لمرض يعرف باسم «كوبرولاليا – Coprolalia »، وفيه تخرج البذاءات من المريض تلقائيا حتى لو لم يثِر أعصابه أحد!.

نفس الأمر ينطبق على ما يصدر من المريض من حركات قذرة باليد أو يلمس العضو التناسلى باستمرار، وهو ما يعرف باسم «كوبروبراكس – Copropraxia»، ولعلك لم تنسَ ما فعله مرسى فى مقابلته مع رئيسة الاتحاد الأوروبى!

ثم هناك النوع الثالث، وهو ما يعرف باسم «كوبروجرافيا – Coprographia»، وهو الولع بكتابة البذاءات، خصوصا على الجدران (لاحظ الكتابات البذيئة على جدران دورات المياه العمومية لتتأكد أن المرض منتشر وله تاريخ طويل عندنا!). ثم هناك كذلك الولع بعرض الجسد العارى أمام الجنس الآخر لإثارة اشمئزازهم، وهو ما كان عرفا سائدا فى وقت كانت فيه نسوان الحارات الشعبية تراه وسيلة فعالة للتجريس والتقريع والفضيحة.

إن جيلا بكامله يأكل يوميا من «مائدة البذاءة»! أكثر من نصف المصريين يعزفون يوميا «سيمفونية البذاءة» ببراعة لا يحسدون عليها! خذ مثلا سائقى التاكسيات، إنهم بذيئون للغاية ولا يتورعون عن مخانقة الزبون الراكب من أجل قروش زهيدة، الباعة الجائلون بمكبرات الصوت المزعجة هم أيضا بذيئون، فهو يزعجك أو يقلقك من نومك ولا مانع من أن يتطاول بالقول أو الفعل إن استلزم الأمر إن أنت حاولت أن توبخه بينما مبتغاه أن «يأكل عيشا» منك ومن جيرانك، فتأمل! أرباب الحرف والصنايعية بذيئون جدا، المشاة فى الشوارع بذيئون. راكبو «الموتوسيكلات الصينى» بموسيقاهم المزعجة بذيئون، حتى الكثير من أئمة المساجد صارت خطبهم تحمل قدرا كبيرا من البذاءة. الأمثلة أكثر من أن تحصى، فأنت حيثما وليت وجهك، ستجد الأبذياء هم العنوان المتصدر للمشهد فى المجتمع.

البذاءة أضحت مرادفا للحالة الثورية، والفوضى ترجمة للحرية، والعنف اللفظى والفعلى هو اللغة المعروفة للحوار اليومى والترجمة المعتمدة للحالة المصرية.

فى عصور ما قبل الحضارة، كان البقاء للأقوى، تطورت الأمور ودخلت البشرية فى عصور سادها التقدم والتحضر، فصار البقاء للأصلح، أما فى مصر فقد صار البقاء- بكل أسف- للأعنف والأكثر سفالة وأشد بذاءة!.

عندى اقتناع يرقى لليقين أن الشعوب تُربى كما الأبناء تماما. ثم إن لدىّ تصوراً بأن حالتنا فى مصر أشبه برب أسرة ذهب ليعمل وانشغل عن تربية أبنائه بجلب المال لبحبوحة حاضرهم وضمانة مستقبلهم، ولما رجع بعد سنين، فوجئ بأن أولاده وضعاء وسفلة مع الأسف. يبدو أن متلازمة «توريت» هذه باتت تلازمنا! أطلت عليك فمعذرة. تقبل تحياتى وكل عام وأنتم بخير.

a_algammal@yahoo.co.uk