في وداع عام قديم

وليد علاء الدين الإثنين 28-12-2015 22:15


تودع هذه المقالة عامًا وتستقبل آخر، فماذا عساها تقول؟

فلنجعلها مقالة استغفار عن ذنوب الكتابة التي كانت، بعضها كان أفكارًا تغيرت مع الوقت لظهور معلومات جديدة. وبعضها كان بفعل شياطين الأفكار التي تجعلك خلال الكتابة تظن بأن المقالة حلالك الذي لا يخامره حرام، بينما ملاك صغير من تلك القلة التي ما زالت تتشبث بحنايا روحك يقول لك: هي ما ألهمتك إياه مقولة هذا الصديق، أو عبارة ابنك لك هذا المساء، أو تلميحة زوجتك لك وأنت تقرأ لها مقالتك السابقة . . . ، أو غير هؤلاء من أبطال لم تمتلك الشجاعة في كل مرة للتنويه بدورهم وتقديم الشكر لهم.

إنها فرصتي الأخيرة إذن هذا العام لشكر هؤلاء المبدعين وأبطال الظل، ممن كانوا سببًا في الكتابة، أو معينًا عليها، أو محفزًا لها.

في مقدمة هؤلاء الأبطال، تأتي زوجتي الحبيبة، أقول لها: تعرفين طبعًا أنني ممتن وشاكر لكِ صبرك، علي وملاحقتي لك عبر الهاتف في عملك، أو وسط انشغالك بأمور منزلنا الذي ترعين شؤونه باقتدار، وإصراري على أن أقرأ عليك المقالة الآن لأنني أخشى أن أنشغل ولا أجد الوقت لقراءتها لك قبل الإرسال.

ما لا تعرفينه هو أنني كثيًرا ما عاندتك وأخذتني العزة في الحوار، بينما أنا موقن بأن رأيك هو الأصوب، وما لا تعرفين معظمه هو أنني كثيرًا ما استبدلت عبارات بأخرى، وحذفت كلمات، وغيّرت صياغة فقرات، وقدمت وأخّرت وقصّرت وأطلتُ في صياغات . . . نتيجة لمناقشاتي معكِ في المقالات قبل نشرها. علي أت أعترف بذلك، شكرًا، ولكن لا أعدك بأن أغير ذلك، فشياطيني الصغيرة ما زالت أكثر عددًا من ملائكتي.

أما أنت يا صديقي عامر عبد الله، فلا أخفيك أنني افتقدت كثيرًا رأيك وتعليقك على المقالات قبل نشرها بعد أن اعتدت منك ذلك طوال أكثر من عام ونصف، أستطيع أن أحصي لك عدد المقالات التي مرّت من دون أن تمر عليك، بالتحديد منذ أن انشغلتَ ببرنامجك التليفزيوني، في الواقع أنا لست غاضبًا، بل سعيد بأنك وجدت أخيرًا فرصة لتثبت من خلالها أنك إعلامي مختلف، تملك بداخلك طاقة ووعيًا إنسانيًا مذهلًا، كفيلٌ بوصل خيوط الحوار مع من يتحصنون بالمصطلحات والنظريات و"الحبشتكانات" الفارغة، فإما أن يهبط من علياء زيفه إلى بساطة الروح الإنسانية، أو يبدو كالمختل حين لا ينجح في تقديم إجابات تناسب الروح البشرية التي لا تأمل سوى في حياة تُشبه أصحابها.

إنها فرصتي الأخيرة هذا العام للتعبير عن امتناني لك، وكذلك لتهنئتك ببرنامجك الجديد.

كتبتُ ذات مرة مقالة بعنوان "مرّه واحد داعشي"، ألهمني إياها – من دون أن يدري- الشاعر والكاتب الصديق أحمد محجوب من خلال تدوينة له على الفيس بوك، وهو الاعتذار الوحيد الذي أدين به لك يا محجوب، ولكنها فرصة لأطلب منك طلبًا قبل أن ينتهي العام: أنت شاعر مهم، وقد قرأتُ كل ما أرسلته لي من قصائد، ولا أعرف لماذا لم تنشرها حتى الآن، بينما يبادر تافهون كثيرون إلى نشر تفاهاتهم؟

ليس هذا فحسب يا ابن محجوب، أدعي -وأنا تحت تأثير كل ملائكتي الصادقين - أنك أحد أهم كتّاب السرد في مصر – من جيلنا على الأقل- "عليك حتّة دين عَفقة جُملة"، بديعة، وقد قرأت بحب كل ما تكتبه –تحت الضغط- من سيرة مشحونة بماء العفاريت وخلاصات الأبطال أصحاب الخوارق والكرامات، لأكتشف أنك أحد أصحاب هذه الكرامات، وولايتك في الكتابة، فيا سيدي . . . وحياة "زوزو" اكتب، "فما دايم إلا الكتابة".

كتبتُ مقالة بعنوان "شهداء في أكفان كفّار" أتساءل فيها عن سر تكفين "الأخوان المسلمين" لضحاياهم –المفترضين- سواء في ميدان رابعة أو النهضة أو غيرهما، بينما السُّنة أن الشهيد لا يُكفّن!

كنت أكتب بدافع الفضول ورغبة في المعرفة – لا انتقامًا ولا تشفيًا في الدم- منتظرًا أن يأتيني الرد من أحد العالمين ببواطن الأمور، ولم أقصد أبدًا توجيه الاتهام لأحد، ولما لم يصلني جواب واحد وسط كم السباب والشتائم الذي وصلني، شعرت بأنني أخطأت، ولم أعد أعرف إن كان السؤال في محله أم لا!

ولكنها فرصة الآن للقول بأن قلبي وروحي متعاطفان مع كل ذرة دم سالت من جسد أي إنسان، نزل من بيته ونيته خالية من الرغبة في قتل غيره، إلا أن عقلي ما زال ينتظر الإجابة على ذلك السؤال.

كتبتُ ذات مرة مقالة عن المشكلة التي أثارها إنهاء إنتداب أحمد مجاهد من الهيئة العامة للكتاب، بعنوان "هل يكون أحمد مجاهد آخر الرجال المحترمين!"، كان العنوان خادعًا ولم يعبّر مباشرة عن فكرتي التي أردت قولها، لم أكن أقصد الدفاع عن الرجل أو مهاجمته، كنت أريد ببساطة أن أقول إن غياب معايير للمساءلة يجعل الأشخاص غير مسؤولين، أو لا تمكن مساءلتهم. ويبدو أن الوضع سيظل على ما هو عليه، وبذلك لن يكون مجاهد آخر الرجال المحترمين، حيث لم تمكن مساءلته.

الاعتراف هنا – أو الاعتذار- هو دين في رقبتي للصديق محمد البعلي، الذي نبهني إلى أن عنوان المقال خادع وسوف يضلل الناس، ولكني ظللت أجادله لنصف ساعة – بينما أنا موقن تمامًا أنه على صواب، فقد كانت كل ملائكتي نائمة في تلك اللحظة.

تمضي هذه السنة، وفي نفسي غصة لرحيل الباحث القدير سامي بطة، الذي لم يمهلنا القدر لكي نلتقي وجهًا لوجه، وإن تلاقينا في الحوار وتواصلنا حول أفكار تتعلق برؤيتنا للحضارة المصرية القديمة وضرورة تخليصها من أوهام كثيرة علقت بها وأفسدت الحضارة المصرية المعاصرة.

كان الرجل نبيلًا، وكاتَبَني بأفكاره، ونشرتها مشيرًا إليه في مقالة تالية، متأملًا أن نطور المناقشة معًا ونحوله إلى كتاب، إلا أنه رحل عن عالمنا قبل أن يتحقق لنا ذلك، رحمه الله.

اعتراف أخير، نازعتني شياطيني في تأجيله للسنة الجديدة، إلا أن ملاكًا من الزنّانين نصحني بكتابته الآن قبل أن أستفيق من غمرة الرضا النفسي: مُلهمي لهذه المقالة هو الشاعر الجميل محمد شحاته، الشهير بالعمدة، وهو بالمناسبة شاعر مربعات وفن واو صعيدي مذهل، ولا أعرف لماذا لا تستفيد مصر من موهبته بإنشاء مركز تابع للثقافة الجماهيرية لإحياء هذه الفنون وتطويرها والترويج لها، إن لم يكن لحفظ هذا التراث الذي يجهله المصريون أنفسهم، فعلى الأقل لمعادلة موجات "الهبل" الفني الذي يجيد ملء فراغاتنا هذه الأيام.

وكل عام وأنتم بخير، ولا أظن أن العام الجديد سوف يحمل الكثير من التغيير، ولكن تفاءلوا -من دون التخلي عن الوعي- فالإفراط في التفاؤل خصوصًا بلا مبرر وبلا وعي- لا مؤاخذه هَبَل.

waleedalaa@hotmail.com