الرعب والتيه

أحمد الدريني الإثنين 28-12-2015 22:15

يتملك الهلع ناصيتي.
أصدقائي يموتون تباعًا. حين أبحث عن رقم ما في هاتفي المحمول أصادف أسماء كثيرة غيبها الموت أو السجن أو حالت بيني وبينها البيد والفيافي والقفار والبحار، مشتتين في أربعة أركان الأرض.
أحاول تبديد فكرة الوحشة في هذه النسخة الأكثر إرعابًا من العالم التي نعيشها الآن، أتناول كتابا عن المستقبل وتصوراته، أهداه لي –بروحه السمحة- الدكتور محمد المخزنجي، أقلب صفحاته عل في وداعة المخزنجي شيئا تفلت إلى صفحات كتابه الطيب.
لكن الأبحاث تشير إلى أننا مستقبلًا سندفع أموالنا لقاء الانخراط في أعمال ري الحدائق والاعتناء بالزهور وقطف الثمار. فالإنسان الذي تتوحش التكنولوجيا وتزحف على تفاصيله اليومية، سيراكم خسارات مروعة إلى حد رغبة في الارتداد للطبيعة ولسيرته الأولى، لذا سيدفع أموالا لشركات ومحال تجارية متخصصة في "دمجه" في أنشطة مغموسة بتفاصيل "إنسانية".
أترك الكتاب وتستغرقني الفكرة.. هل سأدفع أموالًا كي أشذب أوراق الأشجار لدى "مول" جديد متخصص في توفير "سلعة ممارسة الآدمية الحقة"؟
ألاحظ أنني أفكر جديًا في شراء كلب منذ فترة، بالتوازي مع رغبتي في تحجيم علاقاتي الإنسانية. فلم يعد في القلب محتمل لمهاترات مرسي وسيسي وفلول وعسكر ونشطاء وكلجية وخساير وسونيا وكنبة وشارع وبيادة واستقرار وسوريا والعراق..
حسنًا، لقد أقلعت عن لعبة "القنص" التي كنت أمارسها على هاتفي المحمول، لأنها دفعت بطباعي خطوات ملحوظة نحو العدوانية وانفلات الأعصاب والرغبة في قنص الآخرين حقيقة بدلا من التسلية بقتلهم في ألعاب الفيديو جيمز.
أنا مرتبك، لماذا لم يعد الناس يموتون بسلام كما كانوا يموتون بسلام ونحن أطفال في نهاية الثمانيات ومقتبل التسعينات؟
كانوا يموتون لأنهم كبار في السن، وكان المبرر كافيًا ومفهومًا. أما الآن فالسرطان يحصدهم وأمراض الكبد والكلى تنهشهم، وصار الموت أكثر وحشية، وباتت لمسته في الأبدان أشد غلظة من ذي قبل.
ما الذي جرى في الكوكب؟ متى ظهرت داعش؟ ومتى تفكك الإقليم ومتى لم يعد كل شيء في محله المعهود؟
لماذا تعقدت المعادلات فجأة، بعدما كانت الحياة كلها خاضعة لمعادلة واحدة بسيطة؟
كنا نصلي في المساجد ونعود بيوتنا، ولم يكن هنالك مائة فرقة متناحرة ولم يكن هنالك من يتحدثون عن البخاري وصحاحه، ولا عن الإلحاد وشبهاته، ولا عن "دموية" تاريخنا أو طهره.
كانت الحياة بسيطة، وروائح الفواكه نفاذة. (أم لعلها حواسنا التي كانت يقظة نضرة؟).
هل كانت الحياة بسيطة حقا؟ أم أننا لم نكن ندري أن الجني بالقمقم؟ هل هي أزمة قصور الإطلاع التي أورثتنا السكينة سنين طوال؟ أم هو جرم الذي أخرج الجني من قمقمه وفي ذيله عشرات التساؤلات المربكة التي لا تترك شيئا فيك إلا وأهالت عليه الشكوك؟
لقد كان أبو بكر البغدادي يعيش في العراق في تلك الفترة من مقتبل التسعينات، لعل جاري الذي عمل بالعراق في تلك الفترة كان نديمه أو جاره أو شريكه في عمل ما.. لعل!
مرسي أستاذ جامعة متوسط القدرات. السيسي يركب مترو الأنفاق من محطة كوبري القبة بجوار وزارة الدفاع ويسأل القلة المتزاحمة على الباب: حضرتك نازل المحطة الجاية؟ بينما يزدان كتفاه برتبة عقيد.
وكان هناك شاب مصري يشاهد فيلم (beautiful mind) على الشاشة، قبل أن يعمل سائق تاكسي بأمريكا ثم يقود سيارته ليقتل جون ناش، بطل الفيلم الذي كان يشاهده قبل سنوات باستمتاع!
لقد كنا جميعا ندب بقدمين في ذات اللحظة، لكننا وحوش كامنة، كانت بانتظار صافرة البدء كي تتناحر في مشهد أبوكاليبتيكي (apocalyptic) مروع جدًا.
كل واحد منا له مساهمته التي لا تنكر في التنكيل بحياة الآخرين، بالرصاص أو بالسياسة أو بالكتابة أو حتى التواطؤ بالصمت.
أفكر ثلاث مرات على الأقل يوميًا في حذف حساباتي من مواقع التواصل الاجتماعي، كي أنعم بشيء من آدميتي المهدرة، بعيدًا عن طوفان التخوين والتسفيه والتناحر اللامتناهي.
لكن كيف سأفعلها وعلى فيسبوك، أتفق الآن مع أرباب العمل على مهامي الوظيفية وأعقد الاتفاقات العاجلة ويتعرف علي الآخرون؟ الأمر أشبه بعامل تراحيل لا يود الذهاب للميدان، ويريد أن يعرف المقاول أنه منزو على نفسه بعيدا عن صخب الآخرين، في نقطة ما من الكوكلب.
أرمق طفلي ذي الأشهر المعدودات، وأود لو أحمله وأعتزل به في واد أخضر بعيدًا عن أعين الناس، فليس لدي إجابات شافية للأسئلة التي قد تطرأ لديه. كيف سأبرر له أن والده لا يمتلك حكمة الآباء؟
والحكمة في مسيرة البشرية، يتم تثبيتها في أرواح الآباء، كي يجيبوا أسئلة آبنائهم بحصافة. كأن الله يضعها بيده كي لا يحرج الآباء أمام أطفالهم.
كيف سأتعلل أمامه بأننا جيل جديد من المخلوقات البشرية لا تمتلك الآباء فيه الحكمة السابقة؟
أدس أنفي بين كتفه ورأسه وأتشممه، ففي ذلك العزاء والسلوى.
وأقول سأقاتل حتى نهاية الأرض لأجلك أنت.. لكن اعذرني إن فقدت الحكمة والصواب والميزان في الطريق، فياولدي لم يعد كل شيء كما خبرته منذ طفولتي.
أبوك حائر. (سأقول حائر ولن أقول "خائف" حفظًا لما تبقى من ماء الوجه).