لا يعرِف البعض، ولا يتذكَّر البعض الآخر.. ولا يريد أن يتذكَّر البعض الثالث.. أن الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل كان مديرًا للحملة الانتخابية للرئيس أنور السادات.
(1)
قام «الأستاذ» بواحدةٍ من أكْفأ عمليات الانسحاب.. ثم بواحدةٍ من أَمْهَر عمليات «إعادة الانتشار».. وكان النجاح مدهشًا فى الخروج من «الناصريّة».. والتمهيد لـ«الساداتيّة». وأدرك قُرّاء «الأستاذ» فى تلك الأثناء أنّهم أمام «غروب عبدالناصر» و«شروق السادات».
كان «شروق السادات» فى مقالات «هيكل» باهِرًا ومُتوهَّجًا.. وبَدَا فيه «الأستاذ» أقرب إلى رئيسٍ موهوبٍ لشركة علاقات عامة.. اتّخَذَتْ لترويج أعمالها شعارًا صارِخًا: كيف تصنَع زعيمًا فى أربعٍ وعشرين ساعة؟
ولقد اندهش كثيرون فيما بعد من حجم الانقلاب الكبير.. ومن ذلك الطريق الدائرى الذى قَطَعَه «الأستاذ» فى سهولةٍ ويُسْر.. من «ربيع الرِّضا» إلى «خريف الغَضَب»!
(2)
بدأ الأستاذ هيكل عملية الانسحاب من الرئيس عبدالناصر فى 6 نوفمبر عام 1970.. حيث كتب «الأستاذ» فى ذكرى الأربعين مقالاً شهيرًا بعنوان: «عبدالناصر ليس أسطورة».
وكان من بين ما قال: «ليس من حق أحدٍ بيننا أن تُراوده فكرة تحويل جمال عبدالناصر إلى أسطورة».. «عبدالناصر كان إنسانًا عظيمًا.. لا أقل ولا أكثر».
وقد وَجَدَ «الناصريون» فى المقال.. مديحًا عاديًا فى عبدالناصر مِن الكاتب الذى طالما تحدّث عن الزعيم الراحل– فى حياته– باعتباره «أكثر من أسطورة». وكان تقدير القُطب الناصرى الأستاذ «ضياء الدين داوود».. أن المقال كان له أسوأ الوقْع على الناصريين.. ورأى الدكتور «لبيب شقير» رئيس مجلس الأمة أن مقال «هيكل» ينتقِص ويحطّ من قيمة الزعيم الخالد.. وطالب «شقير» بمحاكمة هيكل سياسيًا.
وتقديرى أن الأستاذ هيكل– لو كان مخلِصًا لمشروع عبدالناصر أكثر من إخلاصه لمشروعه– ما طرح السؤال: هل عبدالناصر أسطورة؟.. لكى يجيب عنه: إنه ليس أسطورة.
وكان من الأنسب أن يتحدّث فى ذكرى أربعين الزعيم عن فضائِله ومناقِبه.. وعن الرسالة التى عاشَ وماتَ لأجلِها.. دون أن يشغل الرأى العام بنقاشٍ غير مطروح.. ومن جوابٍ صادِم على سؤالٍ جارِح!
(3)
يذهب الأستاذ «أحمد حمروش» إلى أن «الأستاذ هيكل» قد اختار بمقالِه «عبدالناصر ليس أسطورة».. الابتعاد عن مجموعة عبدالناصر والقُرب من أنور السادات.
إنّ من يعيد قراءة ما كتبه «الأستاذ» فى تلك الحقبة سيُصاب بالذهول.. وقد يجد القارئ أسبابًا عديدة للذهول.. كان حجم المديح كبيرًا للغاية.. وكان مستوى الإطراء بلا حدود.. ولولا الموهبة الكبرى للأستاذ هيكل فى بهاءِ اللغة وروعةِ الأسلوب.. لبقيَتْ الكثير من كتاباته فى تلك الحقبة.. ضمن «النصوص الرَّكيكة» فى الأدب السياسى.
لم تكن إنجازات الرئيس السادات قد تحقّقت بعْد، وكان الزعيم الجديد لا يزال يبحث عن خريطة طريق.. فى أجواءٍ عاصفة. لكن الأستاذ هيكل سبق الرئيس السادات بالمديح.. باعتباره «زعيمًا» لا «رئيسًا».
يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل فى مديح الرئيس أنور السادات: «سيظلّ السادات قائدًا تاريخيًا لشعبه، وهى قيادة يَتَضاءل أمامها كرسى الرئاسة.. إلى جوارِ مقعدِ القائد والزعيم الذى يمثله السادات نفسه».
وفى 28 مايو عام 1971 كتب الأستاذ هيكل مقاله بالأهرام تحت عنوان «السؤال الأول والأكبر».. وفيه تزاحمت عبارات المديح: «كان أنور السادات صادقًا.. ولم يكونوا صادقين».. «الجماهير كانت معه».. «كان الرئيس كريمًا وحليمًا كعادته».. «كان أنور السادات يتصرف على سجيته.. مصرى أصيل مفتوح القلب والعقل معًا».. «هذه المرحلة هى التى ستجعل من أنور السادات قائدًا تاريخيًا لشعبه وأمّته».
وفى 11 فبراير 1972 كتب الأستاذ هيكل فى مقاله «علامات على طريق طويل»: «كان أنور السادات أكثر ما يكون أمانةً حين قال: إننى أفهم ما يعانيه الشباب.. وأنا الذى خرجتُ من طينِ مصر إلى التمرد.. وإلى السجن وإلى التشرد.. ثم إلى الثورة»..
«كنتُ دائمًا من قاع السلم الاجتماعى فى مصر.. من قلب الطين.. ولقد تعلمتُ بمعجزة».
ولقد استخدم «الأستاذ» النصوص الأخيرة ضدّ الرئيس السادات– فيما بعد– فى كتابه «خريف الغضب».. حيث قام بتحليل العُقد النفسيّة للسادات.
كان «القاع» فى حياة السادات.. أساس مديح «هيكل» الذى رأى فيه أصالةً وصلابة، وعاد «القاع» بعد رحيل السادات.. أساس هجوم «هيكل» الذى رأى فيه «تدنّيًا وهبوطًا»!
(4)
يذكر الفيلسوف الدكتور فؤاد زكريا فى كتابه «كم عُمر الغضب؟» الذى جاء ردًا على كتاب «خريف الغضب».. أن الأستاذ محمد حسنين هيكل كان مديرًا للحملة الانتخابية للرئيس السادات.
ويستشهد فؤاد زكريا بقول الأستاذ هيكل: «لقد أدَرْنَا الحملة للرئيس السادات فى الاستفتاء على رئاسة الجمهورية.. على أساس أنه كان الرجل الذى اختاره جمال عبدالناصر لهذا المنصب بنفسِه حين أحس باحتمال خطرٍ على حياته».
وفى إطار إدارته للحملة الانتخابية للرئيس السادات، كتب الأستاذ هيكل فى مقاله بالأهرام فى 21 مايو 1971.. متحدثًّا باسم السادات: «إنّنى أعمل بضميرى وليس بإملاء أحدٍ علىّ.. وأقوى سلاحٍ أملكه فى يدى أننى لا أتمسك بأن أظل رئيسًا».. «كان أنور السادات فى هذه الساعة الحاسمة من التاريخ هائلاً بأكثر مما يستطيع أن يتصوَّر أحد.. كانت قراراته مزيجًا مدهشًا من الهدوء والحسم».. «كانت لحظةً حاسمةً فى تاريخ مصر.. وكانت لحظةً رائعةً نبيلة».
(5)
يوجز الدكتور فؤاد زكريا القول: نحن عند «هيكل» إزاء «ساداتيْن» لا سادات واحد.. أحدهما كان بطلاً حين كان راضيًا عنه وشريكًا له.. والآخر كان منحرفًا عندما حلّ عليه خريف الغضب.. ثم يسأل الفيلسوف: «إذا كان لدينا ساداتان.. فكم هيكل لدينا؟!
■ ■ ■
هنا وقفةٌ تاسعة.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر.