تخيل معي..
دولة اقتصادها يئن تحت ثقل تركة عصيبة وبوصلة غائبة، ومواطنون يعيشون بالملايين تحت خط الفقر، ويفضل شبابهم الموت غرقاً في البحر على الحياة في ذل داخل جدران الوطن.. تخيل معي أن لهذه الدولة جهازًا إداريًا ضخمًا، يأخذ من قوتي وقوتك رواتباً ضخمة شهرياً كي يخرج في مؤتمرات صحفية ليطلق النكات على الشعب «ولي نعمته أصلا!».
تقول الدولة إنها بحاجة إلى «الدولار»، وتبرر الأزمات بأن المستوردين يستنزفون الاحتياطي الأجنبي في شراء سلع «تافهة»، وتخبر هذا الشعب كم هو «سفيه» لينفق أكثر من 194 مليون دولار على قمصان النوم، ونحو مليار جنيه على «ورق البفرة».
ولو أني هبطت من الفضاء مباشرة، سأقول في نفسي: «حسناً، هذه دولة تفرض سياسة الاقتصاد المخطط، وتحاول حماية صناعتها المحلية، بذات الطريقة التي فعلتها دولة أخرى سابقاً»، لكن نظرة واحدة لخط سير الحكومات المتعاقبة منذ عقود، تقول بوضوح إن الدولة «تهرول» في اتجاه الاقتصاد الحر، فما الذي يحدث؟.
تقول بيانات الحكومة التي يصدرها مسؤولون يتقاضون رواتبهم من جيوبنا إننا شعب «يحب الرحرحة»، فنحن نشتري ملابس مستوردة وسجائر مستوردة وورق بفرة مستورد وطعام مستورد، وكأن هذا المسؤول يرتدي بدلة من إنتاج المحلة وحذاء من ورش المدابغ ويأكل من «لحمة الجمعية».
قد تجد نفسك بالفعل مندهشاً من هذا «الإسراف الشعبي»، في الوقت الذي تحتاج فيه الدولة لكل دولار، فضلاً عن كل مليم. لكن الحقيقة هي العكس تماماً، فأوركسترا الدجل الاقتصادي التي تطلق البيانات المستفزة تضرب أكثر من قنبلة دخان لتعمي أبصار الجميع عن السؤال الاقتصادي الحقيقي: «أي نظام اقتصادي نتبعه بالضبط؟».
فالدولة التي تقول إنك «تستنزف» مواردها بـ194مليون دولار سنوياً من أجل «قميص نوم مستورد» ترفض الإجابة على أسئلة اقتصادية أكثر إلحاحاً: فماذا فعلت الدولة لصناعة الملابس محلياً، ماذا قدمت للناس غير التخريب المتعمد وبيع الأصول بأقل من القيمة الدفترية، وتشريد العمالة؟.. تخبرنا الدولة بأننا «متدلعين» لأن البيانات تقول إننا نستورد بنحو مليار جنيه «ورق بفرة» خلال ثمانية أشهر فقط، وكأنها تحدثنا «بصياعة» عن انتشار المخدرات بين كافة طبقات المجتمع، لكن الدولة لم تكلف نفسها بالرد على سؤال أهم وهو: «لماذا فشلتم ومازلتم فاشلون في القضاء على هذه التجارة المحرمة؟».. ألم «ينتفض» أمناء الشرطة احتجاجاً على إحالة «بعض» أفرادهم لتحليل المخدرات؟.. و«لماذا تصر وزارة الداخلية على إخفاء إحصائيات الأمن العام (وليس السياسي أصلاً)، منذ 1997 وحتى الآن، رغم انتظام صدوره حسب المصادر؟».
تنتقد الدولة مواطنيها على استهلاكهم السجائر المستوردة، وترفع الأسعار مرة تلو أخرى بدعوى الحفاظ على صحة المواطنين، فيما تظل الصحة على حالها، «تتسول» كي تبني مستشفى أو تشتري جهازاً أو تعالج مريضاً.. «فلماذا لم تذهب أموال السجائر «الترفيهية» إلى قطاع الصحة بدلاً من تقريع المواطنين على طريقة الأستاذ الفاشل والتلميذ البليد؟».
تخيل معي أن دولة «تشتكي» من مواطنيها «المسرفين مدمني المستورد»، فيما تدمر هي بنفسها صناعتها.. تخيل معي دولة تحدثك عن اقتصاد السوق، بينما يتقاضى كبار موظفيها مليارات الجنيهات، كي يعايروك لأنك طبقت قانون العرض والطلب الذي يتحدثون عنه بخشوع، وحين تشتري سلعة أعجبتك، يعتبرونك «شعب عالة».
عزيزي المسؤول صاحب النكات السخيفة: أنا مواطن أدفع من حر مالي كي أشتري ما يحلو لي، لأنك ببساطة أبلغتني بأننا نعيش «اقتصاد السوق»، وأدفع ضرائبي بانتظام كي أوفر لك هذا الراتب الضخم.. باختصار أنا أدفع «أجرة» كل أولئك الذين يمارسون ضدي كل أنواع الدجل والاحتقار والهرتلة، ولن يكون الاقتصاد اشتراكياً على المستهلك، ورأسمالياً لأهل الحكم والثروة، أما أوركسترا الدجل الاقتصادي، فإما أن يدركوا حقيقة أن المواطن هو «ولي نعمتهم» ويجيبون على الأسئلة الصحيحة، وإما أن يخرسوا للأبد.. فالشعب سيكون «سفيهًا» بالفعل إذا دفع لكم من قوت يومه، كي تسخروا منه بنكاتكم الاقتصادية السخيفة.