النهضة وكرامة بيكو

وجيه وهبة السبت 26-12-2015 21:42

بعد جهد جهيد، اختار الفنان «مايكل أنجلو» أطناناً من أفضل أنواع رخام كرارا، وعاد بها إلى روما، ليبدأ أعماله التى كلفه بها «بابا الفاتيكان». ذهب الفنان بالفواتير إلى مساعدى البابا، ليتحصَّل على ثمن الرخام، لكنهم سوَّفوا وأجَّلوا، ذهب لمقابلة البابا نفسه، ولكن الحاجب منعه، بحجة انشغال البابا، تدخل أحد الكاردينالات قائلاً للحاجب: «ألا تعرف من هذا الذى تمنعه من لقاء البابا؟!!»، لكن الحاجب أصر على منعه من الدخول قائلاً: «أعرفه جيداً يا سيدى، ولكننى أعرف أيضاً كيف لا أخالف تعليمات رؤسائى». غضب الفنان وذهب إلى منزله، وفوراً أعدَّ حقيبته وترك روما، عائداً إلى مسقط رأسه ورأس عصر النهضة: فلورنسا.

لقاء البابا والفنان: علم البابا بما حدث، أرسل فى إثر «مايكل أنجلو» أربعة من رسله، طالباً عودته، رفض الفنان حتى أن يرد على رسائل البابا.. وحينما استعطفه أحد الرسل راجياً أن يكتب أى رد ليعود به، كتب الفنان إلى البابا معتذراً عن عدم العودة لإنجاز العمل، نظراً لما لقيه من سوء معاملة معاونى البابا، طالباً منه أن يبحث عن فنان آخر غيره. إنها مسألة «الكرامة». حينما نقول بابا روما، تلك الآونة، لا يتأتى إلى ذهنك بابا الفاتيكان الحالى «فرنسيس» رجل الدين الطيب الورع، فالبابا فى تلك الأيام كان رجل دين ودولة، خليفة الله على الأرض، حاكماً له هيبة وسطوة، له جيش وحلفاء، وأتباع فى كل مكان.

لم تكن «فلورنسا» تتبع روما سياسياً، وبالرغم من ذلك خشى حاكمها من غضبة البابا، فأقنع «مايكل أنجلو» بأن يذهب للقائه فى «بولونيا»، حيث كان البابا قد غادر روما وقدم إليها. ولمزيد من طمأنة الفنان، اقترح الحاكم عليه أن يذهب للقاء بصفة دبلوماسية، كسفير لفلورنسا، مصحوباً بأحد كبار رجال الدين. اقتنع الفنان، ذهب إلى «بولونيا»، دخل إلى البابا بصحبة أحد الأساقفة، بادره البابا مستنكراً: «ها قد جئنا نحن إليك بدلاً من أن تأتى أنت إلينا!!»، (إذ إن مدينة فلورنسا، حيث يقيم الفنان، هى أقرب لمدينة «بولونيا»، من قرب «بولونيا» لمدينة «روما» حيث يقيم البابا). وهنا تدخل الأسقف المصاحب لمايكل أنجلو قائلاً: «معذرة أيها الحبر الأعظم، قداسة البابا، فإن مثل هذا الأحمق لا يصلح لشىء سوى ما يصنعه من فن» هنا غضب البابا، وضرب الأسقف بصولجانه صارخاً: «بل أنت الأحمق.. كيف تجرؤ على إهانته بقول لا نجرؤ نحن عليه»، وأتى الحاجب مهرولاً، ليمسك بالأسقف، ويطرده خارج الغرفة. ويتواصل الجليلان وحدهما لحل المشكلة، ذلك الذى أسفر فيما بعد عن إنجاز أروع الأعمال الفنية الخالدة فى تاريخ عصر النهضة، بل تاريخ الإنسانية.

السابق سرده عن علاقة البابا والفنان، أنقله عن كتاب «حيوات le vite» للفنان المعمارى، الرسام، مؤرخ فن عصر النهضة «فاسارى»، وهو قد عاصر «مايكل أنجلو»، هذا الذى وصفه بـ«محيى الموتى»، وكيف لا وهو أول من صك مصطلح «النهضة» أو «البعث orinascimen».

بيكو والنهضة: وربما لم تكن غضبة البابا لكرامة الفنان مصادفة فريدة، فروح المرحلة، بصفة عامة، كانت تستدعى وتسعى نحو منزلة أرفع للإنسان ولكرامته. وقبل تلك المواجهة بنحو عشرين عاماً، كتب الفيلسوف، الكونت جوفانى بيكو Pico النص المسمى «خطاب عن كرامة الإنسانsOratis de homini dignitate»، ذلك الذى اعتبره المؤرخون «مانيفستو عصر النهضة». نعم، إن كرامة الإنسان هى الأساس الفلسفى للبناء فى عصر النهضة، وفى كل العصور، فالخوف يأكل الأرواح، والعقول، فلا تصلح للبناء، والإبداع. رغم عمر بيكو القصيرـ مات عن 31 عاماًـ والذى قضاه مطارداً من رجال الدين والظلاميين، فقد مر كالشهاب فى فضاء النهضة، بعلمه الغزير المرتكز على معرفته بالعديد من اللغات، من بينها اللغة العربية، تاركاً أعظم الأثر فى فكرة الإنسان وكرامته ومنزلته، تلك التى «من الممكن أن ترتقى من أسفل سلم الارتقاء إلى أعلى.. إلى منزلة الملائكة، وذلك وفقاً لإرادته الحرة، التى ميزه بها الخالق عن كافة المخلوقات».

ومن سخرية القدر أن هذا الفيلسوف الفريد، فيلسوف «كرامة الإنسان»، قد اتبع فى آخر حياته القصيرة الراهب المتعصب المتشدد، صاحب الفكر المنغلق «سافونارولا»، نقيض فكر النهضة. مات «بيكو» مسموماً، وعاشت وازدهرت من بعده أفكاره المبكرة عن «كرامة الإنسان ومنزلته»، التى هى قلب عصر النهضة.

الجريمة والعقاب: «معركة النهضة»، التى هى معركة «كرامة الإنسان» لم تكن أبداً بالهينة، ولم تكن تنتهى دائماً نهاية سعيدة، كما فى حالة البابا «يوليوس الثانى» و«مايكل أنجلو»، فبقدر ما كان هناك رجال دين متنورون، لهم إسهامات عديدة فى النهضة فى كل المجالات، إلا أنه كان هناك أيضاً العديد من رجال الدين الظلاميين، كان هناك «حوينيون» و«برهاميون» يسعون للنكوص والتخلف. يحرمون الفن والإبداع، كان هناك، الراهب المرهب «سافونارولا»، ذلك المتعصب المتشد، الذى انسحق البعض أمامه، وأكل الرعب كرامتهم، فأصبح فى غفلة من الزمن هو الآمر الناهى فى عاصمة النهضة «فلورنسا»، وتاب بعض المبدعين على يديه، رعباً. هانت كرامة البعض، وتركوا هذا الراهب المتشدد يحرق فى ميدان «سان ماركو» بعضاً من أغلى الكنوز الإنسانية، كنوز عصر النهضة، من كتب، وأعمال فنية ولوحات لكبار الفنانين. ولأنه فى نهاية الأمر، الجزاء من جنس العمل، فقد طالت نيران حرائق التشدد والاستبداد الدينى مشعليها، وأصدر بابا روما قرار «حرمان الراهب سافونارولا»، وتمت محاكمته وإحراقه فى ذات الميدان، ليستمر إبداع عصر النهضة، وصراعاته مع التخلف، حيث تنتصر فى النهاية كرامة إنسان بيكو.