هناك بعض القصص يمكن أن يطلق عليها «القصة الدالة»، أو «القصة النموذج».. قصص تخبرك ثنايا تفاصيلها عن طبيعة المكان وطبائع قاطنيه.. قصة «صناعة الدواجن» في مصر من تلك النوعية، ففيها كل عناصر الوطن (أزمات طارئة- سوء إدارة- استغلال- وفي النهاية خسائر فادحة).
صناعة الدواجن في مصر، بين البيضة والكتكوت هناك ما يروى.
صناعة الدواجن هي أحد أهم الصناعات الإستراتيجية بلا مبالغة، فنحن نتحدث هنا عن صناعه توفر ما يقرب من ثلث احتياج المصريين من البروتين الحيواني، فضلا عن الأصول الثابتة التي تتجاوز الـ 45 مليار جنيه... صناعة بهذا الحجم تعرضها لهزة لن تؤثر فقط عليها، بل ستمتد لتشمل قطاعات أخرى.
المشكلة الأبرز التي واجهت الصناعة مؤخرا هي أزمة الأعلاف والتى تعتبر عصب الموضوع، فدون غذاء لا حيوان.
ولو سألت أحدهم عن سر الارتفاع الجنوني لأسعار الأعلاف سيجيبك على الفور «أزمة الدولار».
فوفقا للبيانات الصادرة من شعبة الثروة الداجنة بالغرفة التجارية فإن مصر تستورد ما يقترب من 9 ملايين طن ذرة وصويا سنوياً وهو ما يعادل 75% من احتياجات السوق للأعلاف، ومع ارتفاع سعر الدولار مؤخرا كان من الطبيعي أن يرتفع سعر الأعلاف.
والحقيقة هذه إجابة وإن بدت منطقية فهي غير دقيقة، فمقارنة سريعة بين الأسعار العالمية «للذرة» وسعره في مصر تجعلك تدرك على الفور أننا أمام «مافيا» تتربح من المتاجرة في قوت الشعب وأن أزمة الدولار تكئة لاستنزاف أموالنا، ففي
بورصة لندن يبلغ متوسط سعر طن «الذرة» 160 دولارا أي ما يعادل 1300 جنيه، في حين أن سعر الطن في مصر وصل إلى 3150 جنيها للطن!!! أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف السعر العالمي.
الأرقام ببساطة تخبرنا بأن مستوردي الحبوب تربحوا من أزمة الدولار بشكل مرعب، فالمفترض أن سعر الطن عالميا هو 1300جنيه أضف إليه مصاريف الشحن وهامش الربح ليكون السعر المنطقي للطن في السوق المصرية 1600جنيه لنقل 1700 (يا سيدي بلاش خليها 2000 جنيه) لكن أن ترفع السعر لأكثر من 3100 جنيه!! فهذا هو ما يمكن تعريفه ببساطة بتوحش المستوردين في غياب الدولة.
وحين تدخلت الدولة لضبط الأسعار والسيطرة على الموقف انخفض السعر إلى 2300 جنيه. تخيل سعر الطن انخفض تقريبا ألف جنيه في أسبوع فقط حين قررت الدولة التدخل، ولا تسأل عن تفاصيل تدخل الدولة ولا عن كيف نفذت هذا الأمر ولا لماذا تأخرت في تنفيذه، لأن هذا سر من أسرار كهنة آمون.
أضف إلى أزمة الأعلاف هناك مشكلة أخرى على الأبواب ألا وهي طقس الشتاء البارد.
الشتاء الذي يأتي «فجأة» كل عام لنجد أنفسنا نواجه نفس الأزمات بنفس الارتباك والنتيجة المزيد من الخسائر.
من بديهيات تربية الدواجن أن تكون المزرعة دافئة، فالدواجن لن تحتمل برودة الجو، وعليه يجب أن تتوفر أنابيب الغاز لتشغيل الدفايات.
ووفقا لتقديرات وزارة الزراعة، توجد في مصر تقريبا 90 ألف مزرعة دواجن (ما بين مرخصة وعشوائية)، ولك أن تتخيل كم الأنابيب التي تحتاجها يومياً (أقترح حذف يومياً، فالاستهلاك ليس يوميا للأسطوانات، ويتوقف على حجم المزرعة) 90 ألف مزرعة، وبالقطع تعجز الحكومة عن توفير الأنابيب، فتكون النتيجه ارتفاع سعرالغاز وبالتالي ارتفاع سعر الدواجن فضلا عن نفوق كثير من الدواجن، ففي الشتاء الماضيوصلت نسبة النفوق إلى 40% وفقا لتصريح عبدالعزيز السيد رئيس شعبة الدواجن بالغرفة التجارية.
لكن الصورة وإن بدت قاتمة فإن الحلول المنطقية لانقاذ هذه الصناعة الحيوية معروفة ومجربة، وكحل أولي قصير المدى لأزمة الأعلاف يجب إصدار قرار بأن يتم استيراد الذرة والصويا من قبل الدولة أو على الأقل تحت إشرافها.
أما الحل الحقيقى- طويل المدى- لهذه الأزمة ولأزمات أخرى فيكون بمراجعة «السياسة الزراعية» في مصر، وتحديدا نقطتين:
الأولى: التوقف عن اللهاث خلف زراعة محاصيل للتصدير في حين أنك تستورد منتجات أخرى حيوية هي أولى بالزراعة، (اللي باخده باليمين بدفع أضعافه بالشمال).
الثاني: الاستجابة لصوت العلم- فخبراء اقتصاديات الزراعة في العالم يرون أن أقل رقعة تزرع بمحصول واحد هي 50 فدانا وذلك لترشيد استهلاك المعدات والمبيدات والري ...إلخ.
وعليه يتعين على الدولة أن تغير سياستها الزراعية بحيث تقسم الدولة الأراضي الزراعية في مصر إلى مساحات كبيرة (50 فدانا كحد أدنى للقطعة)، وتحدد الدولة المحصول المراد زراعته على أن توفر، بالمقابل، المستلزمات المطلوبة بكافة أشكالها.
لكن للأسف وفقا للمنشورعلى
الموقع الرسمي لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة «FAO»
فإننا مصرون على تنفيذ ذات الطرق القديمة للحل، وهي الطرق المثبت فشلها سلفا، فمثلا لحل أزمة القمح قررت الحكومة تقديم دعم مادي مباشر للمزارع، ثم شراء المحصول منه بأسعار أعلى من السعر العالمي، فتكون النتيجة تهريب كميات من القمح الأجنبي إلى البلاد ليعاد بيعه إلى الحكومة مجددا!!
السؤال.. لماذا الإصرارعلى الحلول التقليدية الفاشلة في حين أن الحلول السليمة معروفة؟
أزمة صناعه الدواجن قضية أمن قومي.. أمن قومي بالمعنى الحقيقي، ففضلا عن 45 مليار جنيه حجم الصناعة والأصول الثابتة فيها وكونها توفر الغذاء لثُلث المصريين، فنحن نتحدث عن قرابة المليون ونصف المليون يد عاملة في هذا المجال، ولو فرضنا أن كلا منهم يعول 4 أفراد في المتوسط، إذن نحن نتحدث عن 6 ملايين فرد ترتبط حياتهم بهذه الصناعة.
هل يحتمل النظام غضب الملايين الستة حال فقدانهم مورد رزقهم؟
يا سادة أمن الوطن وأمنكم الشخصي مرتبط بحل تلك الأزمات أولا، خصوصا أن الحلول معلومة ومجربة، فقط تحركوا قبل خراب مالطا.