أيام قليلة ونودع عام 2015، غير آسفين عليه، فرغم ما شهدته مصر من إنجازات واستقرار نسبى مقارنة بالسنوات السابقة، كان عامنا ثقيلا على النفس، ضاغطا على الأعصاب، حتى ظننت أنه لن ينتهى. حالة من التوجس والشك والريبة هيمنت على النفوس، ركود ذهنى رغم الضجيج، ننتظر ما لا ندركه، ونرجو أن يكون أفضل مما نعيشه.
السنوات التى تلت ثورة يناير ويونيو شهدت تحولات كبيرة، سقطت أقنعة عن وجوه، ولبس آخرون أقنعة جديدة تلائم المرحلة، أشخاص كانوا فى بؤرة الضوء سقطوا فى بئر النسيان، وآخرون صعدواعلى أنقاض قيم وأخلاقيات كانت فيما سبق خطا أحمر، محت قداستها الأزمات، وطحنتها الظروف الصعبة. وقفنا أمام المرآة نشاهد عوراتنا ونحن نتعثر فى خجلنا، ونتساءل: ماذا يحدث ولماذا يحدث؟ كيف استولى الحمقى على العالم، إرهابيون يزرعون الموت بدلا من سنابل القمح، وقادة مستبدون يسوقون شعوبهم إلى ميادين القتال ليلقوا حتفهم محتضنين رايات النصر، يدفعون المليارات لاستيراد أسلحة الموت والدمار ويضنون بالملايين لتحسين حياة الفقراء البائسين من أهاليهم، إعلام فاسد يحتل سمعنا وأبصارنا، يقدم لنا الصور بديلا عن الواقع.. وللأسف صرنا سجناء أكاذيبه وصوره المصطنعة.
كل الأشياء تبدو مختلفة عن حقيقتها، وكأننا نعيش أجواء فيلم «ألعاب مضحكة» لمايكل هنكه، حيث القاتلان الشابان ذوا الوجهين الجميلين والبريئين ليسا سوى ساديين يقتلان بقلب ميت ونفس سوداء كل من تطوله يداهما، وهما يرتديان ملابس أنيقة وقفازات بيضاء!.
مؤتمرات وتصريحات وتوصيات وقرارات، المعلن منها غير ما يتواطأ عليه المجتمعون، لا أحد يعرف من أين ستأتيه الطعنة، تشابك العلاقات الدولية والإقليمية وتباين المصالح واختلاف الرؤى يصنع صراعا لا ينتهى على كوكبنا الذى يئن مما أحدثناه فيه من تدمير للبيئة، والعرب فى مهبّ الريح، كورقة جافة فى صباح خريفى بارد.
الأمور تبدو سيئة جدا، فهل هى بالفعل كذلك؟ أم أن هناك نقاطا مضيئة نغفل عنها، هل نحن شعوب خاملة لا أمل فيها؟ أم أن للعرب رجعة لحضارتهم عودة ولو بعد حين؟ هل ستظل مصر عالقة على أبواب النهضة والتنمية والحداثة أم أنها ستقتحم تلك الأبواب ليكون لها شأن آخر؟
رغم كل ما يحدث على الساحة العربية من اقتتال وصراعات، فهو لم ولن يصل لما حدث فى أوروبا فى القرن الماضى وأسفر عن حربين عالميتين راح ضحيتهما الملايين ودُمرت مدن بالكامل وعاشت شعوب محنة أليمة على مدى سنوات. حين ننظر للحظتنا الراهنة علينا أن نولى الزمن عنايتنا ونقرأ التاريخ بروية، وحين ننتقد حالنا علينا أن نقارنه بتجارب مشابهة، لعلنا نجد نورًا فى النفق المظلم، رغم كل هذا الصراع الطائفى على أرض العراق وسوريا والذى تغذيه مصالح دول كبرى وإقليمية، فمازالت الدولتان تكافحان للحفاظ على حدودهما، فى حين أن دول الاتحاد السوفيتى السابق انهارت، وتم بيعها بالتجزئة للاتحاد الأوروبى، إرهاب داعش الذى نراه فظا منفرا يبدو صبيانيا أمام فظائع الصرب فى البوسنة، مدافن جماعية وإبادة قرى واغتصاب نساء وبقر بطون أمهات وقتل أجنتهن وذنبهن الوحيد أنهن مسلمات، كان ذلك يحدث أمام أعين العالم الغربى وقوات حفظ السلام، أوروبا الغربية كانت تشاهد ما يحدث فى بيت الجيران منتظرة لحظة الانهيار التام، حين تأكل النار الأخضر واليابس، وتسقط هذه الدويلات كثمرة ناضجة فى حجر الجار الغربى الذى يتشدق بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
الحديث عن مؤامرة غربية على الدول العربية مثير للسخرية، فالدول الغربية تآمرت طويلا على بعضها البعض ومازالت، وفضيحة تجسس أمريكا على حلفائها ليست ببعيدة.. ولكن العرب مازالوا يعيشون عصر الرومانسية، لا يريدون أن يقتنعوا بأن العولمة لا تعترف بالمشاعر والعلاقات الشرعية، ولكن بالمصالح والعلاقات المشبوهة المعقدة.
رغم كل هذه النكبات والضربات الموجعة، واليأس الذى احتل قلوبنا التى اخضرت فى ربيع عربى لم يثمر إلا حصرمًا، أردد مع محمود دوريش: وبى أمل يأتى ويذهب.. لكن لن أودعه.