يتساءلون عن سر السعادة والرضا فى استعجال المجاهد لقاءه بالموت. ولماذا يسرع الخطى فى طريق إما قاتلا فيه أو مقتولا؟ ولماذا يكره المجاهد الحياة الدنيا، محبا ومقدسا للحياة العليا؟ وما سر إقباله بشغف على نسف معاقل الكفر بحزام ناسف، راضيا مرضيا يهنئه الرفاق قبل الرحيل، يحسدونه على لحظة القرب الساعى إليها؟ كيف غسل الفقهاء عقول البسطاء، وضللوا الرعية، وجعلوا من القتل دون حق شهادة يؤجر عليها القاتل؟ ومهدوا طريقا إلى الجنة لمن قتل الأنفس التى حرم الله قتلها؟ كيف خلط الفقهاء بين شهداء الحق وقتلى الضلال، ووعدهم للضالين بما لا يستحقونه.
الجهاد عند الفقهاء هو ذروة سنام الإسلام، والمعنى الواسع عندهم هو محاربة أعداء الدين وقتالهم، كما فسروا ما جاء فى النصوص والأحاديث وتناقلته كتب التراث (وكلما حاولت التفرقة بين جهاد الدفع وجهاد الطلب لا أجد مسافة بينهما)، فسحبوا جهاد الدفع (جهاد صد العدوان) إلى جهاد الطلب (محاربة الكفر أينما ووقتما وجد) فى معناه الشامل، فأصبح المسلمون فى قتال دائم مع كل دول العالم، الكافر فى ظنهم. ولما كان العرب قديما يغلب عليهم طابع الشدة والقسوة واحتمال الصعاب، وكان الإقدام فى المعارك للاقتتال والموت مجال فخر وعزة، فكان من الضرورى مكافأة المجاهدين والمقاتلين لترغيبهم فى الجهاد والقتال، حتى يكون الصبر عليه مقبولا والموت فيه مرضيا. فكانت المكافأة الأولى للجهاد هى الشهادة، وهى أقصر طريق إلى الجنة ونعيمها، فزاد حب المجاهد فى التضحية بالنفس، والإسراع بها عن قصد ورغبة. والمكافأة الأخرى إذا عاش المجاهد وانتصر، كان حقه ونصيبه من الغنائم والسبايا موزعا حسب الأنصبة بالعدل. فغالى وأسرف وأثخن فى القتل حتى يفوز بالغنائم والسبايا إذا قدر له العيش، أو الجنة ونعيمها إذا قدر للموت اختطافه.
أولا: فى هذا المقال حديثنا عن الشهادة والجنة.
لعبت كتب التراث والوضاعون ومن هم مسؤولون عن الدين دورا محوريا فى توسعة مساحة الجهاد فى غير ما حددته إرادة الخالق، طمعا فى نعيم الدنيا وطمعا فى الحكم، فوسعوا طريق الشهادة لكل من يموت فى سبيلهم، واستأجروا من شهداء الحق لشهدائهم مساحة من الجنة، ليشاركوهم نعيمها وقدرها، وألبسوهم لباسا سيخلعونه على بابها، واشتروا بلا ثمن أرواحا ضللتها عقود زيف وضلال.!! كتب التراث تعلى من قدر الشهيد وتضعه فى المرتبة الأعلى، تزينه الملائكة بتاج على رأسه من الأحجار الكريمة يعرف به حين العرض على الله، والشهيد يجيره الله من عذاب القبر ويوم الفزع الأكبر. وهو حى لا يموت. يقول فى هذا سيد قطب، إن الجهاد هو أربح تجارة بين الله والمجاهد وهى صفقة يبيع فيها المؤمن نفسه وماله إلى الله مقابل الجنة. وهم ليسوا أمواتاً، بل هم أحياء ولقد قتلوا فى ظاهر الأمر، وحسبما ترى العين، وبما أنهم أحياء فهم لا يغسلون كما يغسل الموتى، ويكفنون فى ثيابهم التى استشهدوا فيها، فالغسل للتطهير وجسد الشهداء طاهر بلا غسل. ويفوز الشهيد فى الجنة باثنتين وسبعين من الحور العين البكارى، ويحق له وصيفات الحور العين وهن سبعون وصيفة لكل حورية، ولكل وصيفة من الوصيفات سبعون وصيفة أخرى وهن من حقه جميعا (قالت بعض الكتب تزيد نساء الشهيد فى الجنة على عشرة آلاف من الجميلات البكارى) ويشفع كل شهيد لسبعين من أهله (سنن الترمذى). ولان الخوف من الموت يكون بألم الممات فإن الاستشهاد محبب إلى النفوس لكونه موتا سهلا وبسيطا، فهذا ابن تيمية يقرر أن ميتة الشهيد أيسر من كل ميتة، وهى أفضل الميتات. وجاء فى مسند أحمد؛ يقول الرسول (ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرصة). فإذا كان الموت كالقرصة فى سهولتها، وقريبا إلى النفوس لكونه موتا سهلا، والفوز بالشهادة على هذا السهولة واليسر دون عناء، والظفر بكل هذه الحوريات البكارى دون مهر أو صداق أو عمل أو سعى، فيكون ما أسهل القتال وما أروعه إذا كانت نهايته الشهادة، وما أجملها حوريات تحيط به من كل جانب كما أحاطت بهارون. وما أتعس حياة الكادحين فى العلم والعمل، وما أشقاها حياة السعى والجد، وما أتعسه من ارتضى الزواج من امرأة لا يستطيع تبديلها أو الزيادة عليها.
فلا فوز فى الحياة الدنيا حتى بالقليل من كل هذا. فيا فرحة الفقراء، ويا سعادة بؤساء الدنيا، ويا نعيم من لا نعمة عنده، ويا راحة الطريق من عناء السفر وصعوبة البناء. فلا تسأل لماذا يستهين المجاهد بحياته، ويضحى بها بسهولة، ويترك ذريته وأهله طمعا فى شهادة ليست حقا له، بل حق شهيد اختصه الله بالشهادة فى سبيله وليس فى سبيل غيره.
الثانية: الغنائم والسبايا.. وهذا لقاء قادم.