(1)
سألني بقرف واضح: لماذا تكتب عن مؤلف أمريكي مات منذ 75 سنة، وعن رواية نشرت قبل 90 سنة.. ما شأننا نحن بهذا؟
أجبت بغلاسة مستترة:.. وما شأنكم يا سيدي؟
اعتدل في جلسته وقال بنبرة المصدوم: لأ بجد.. عندك البرلمان، وخناقة دعم الدولة، وتهديدات الإرهاب...
قلت باقتضاب: لقد كان في قَصَصهم عِبرةٌ لأُولي الأَلباب (صدق الله العظيم)
قال: فسر لي أكثر
قلت: اقرأ قصص الأولين كأنها في زمانك، استمتع بتسلية الحواديت، لكن لا تهمل التجربة والعبرة، فأنا مثلا أرى في «جاتسبي العظيم» شخصيات كثيرة من زماننا، أرى «عكاشة العظيم»، ومرتضى، وسيف اليزل، وأبوالعينين، وأبو الفصاد، وناس كثيرون يسبق اسمهم أو يليه لقب الشهير والكبير والعظيم، وكل واحد فيهم مثل جاتسبي ليس شيئا على الإطلاق، مجرد كذبة زائفة، اسم خاوي تم زخرفته وتلحينه لتمريره تحت ضجيج موسيقى «الجاز» و«المهرجانات» ليرقص عليها الضائعون!
سألني مندهشاً: الضائعون؟
قلت: نعم، هذه الكلمة ليست شتيمة، إنها الوصف الذي أطلقه النقاد على جيل فيتزجيرالد مؤلف «جاتسبي العظيم»، وإذا كان في أمريكا «جيل ضائع»، فنحن نعيش أزمنة متواصلة من «الأجيال الضائعة» في الأدب والسياسة والاقتصاد وكل شىء.
(2)
عندما قرأت رواية «جاتسبي العظيم» لأول مرة، ظللت أفتش عن سر التسمية، وقرأت كثيرا من المقالات النقدية عن الرواية والأفلام المأخوذة عنها، ربما أعرف لماذا كان جاتسبي عظيماً؟، لكنني لم أعرف، ولم أجد شيئا يقنعني بعظمة ذلك المشبوه الذي ولد من ظلام الحرب والفساد، وكون ثروته من التهريب والغش ليصبح «نجم مجتمع»..!، ولما كبرت قليلا وتمعنت في القراءة، لم أصدق تهليل النقاد لعظمة المؤلف نفسه، رأيته ركيكا وسطحيا، ساهمت في صناعة أسطورته جهات وظروف، لولاها ما أخذ هذه المكانة العالية في تاريخ الأدب العالمي، حتى أنه اعترف بالفشل في آخر سنوات حياته، حيث لم توزع روايته أكثر من 25,000 نسخة فقط عند وفاته عام 1940، لكن كما صنعت بداياته الحرب الأولى، ساهمت في تمجيده الحرب الثانية، ففي عام 1942, تأسست منظمة «كتب في زمن الحرب» بهدف تسلية الجنود بالقراءة، واختارت المنظمة رواية «جاتسبي العظيم» وطبعت منها 155 ألف نسخة تم توزيعها على الجنود خارج الولايات المتحدة، بالإضافة إلى طبعات أخرى في الداخل، ما أدى إلى شعبية هائلة للرواية، وبعد سنوات قليلة تم إدراجها ضمن المناهج المقررة للمدارس الثانوية في عموم أمريكا، وترجمت إلى 42 لغة حتى بلغت مبيعاتها 25 مليون نسخة حول العالم, واستقر معدل مبيعاتها السنوية لفترة طويلة عند نصف مليون نسخة، ومازالت تباع بكثافة حتى إن مبيعاتها الالكترونية على الانترنت تناهز 200 ألف نسخة سنويا، وتم تصويرها للسينما 5 مرات حملت جميعها العنوان الأصلى للرواية، منها مرة واحدة في حياة فيتزجيرالد وصفت فيها زوجته الفيلم الصامت بأنه «عفن ومقزز»!
(3)
في البدء كانت الحرب، وفي الختام تظل هي العامل الأكثر تأثيرا في شهرة فيتزجيرالد وجاتسبي أيضا، والمهم بالنسبة لنا أن نتأمل دور الأجهزة الخلفية في صناعة هذه النماذج، وفرضها على الجمهور، ومنحها الشعبية التي تبرر حضورها ودورها في الساحات، وعلى الشاشات، وفي غرف النوم أيضا!
(4)
من غير هذه البيئة الفاسدة لا يمكن لعكاشة أن يكون «مفجر ثورة»، ولا سيف اليزل «داعم دولة»، ولا بكري، ولا مرتضى، ولا خالد صلاح، ولا موسى ولا عيسى وسواهم من نجوم المهرجانات، كان لهم أن يكونوا بهذا الهيلمان على الفضائيات، وتحت القبة، وحول الموائد العامرة. لكن بيئة «عصر الجاز» كانت تحتاج إلى مثل هذه الأدوات للفوز في اللعبة، و«عصر الجاز» هو مصطلح أطلقه فيتزجيرالد، عندما أصدر مجموعة قصصية بعنوان «حكايات من عصر الجاز» تناول فيها مظاهر وصرعات الحياة الأمريكية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى (1918)، وهو وصف يشبه كثيرا عصر «السداح مداح» الذي بدأ في مصر منتصف السبعينات (والمصطلح للكاتب الراحل أحمد بهاء الدين)، وكما كتب فيتزجيرالد عن ظاهرة الرجل الضائع الفاشل «جاي جاتز» الذي أصبح بفضل التحولات الغامضة «جاتسبي العظيم»، كتب نجيب محفوظ عن «زعتر النوري» الذي أصبح بفضل تحولات انفتاح السداح مداح إلى «محمد بيه»، وظل المشترك بين الاثنين هو «الاقتصاد الأسود» أي رواج التهريب، والفساد المقنن، والأنشطة الاجرامية، والتحالفات المريبة في كواليس السلطة وأسواق المال.
(5)
ما الذي جعل جاتسبي عظيما إذن، وهو الفاسد المشبوه، الذي تركته حبيبته قبل سنوات لأنه فقير معدم لا يستطيع أن يؤثث لها بيتا، أو حتى ينفق على نفسه؟
(6)
السؤال ليس أمريكيا فقط، لكنه سؤال كل الأمكنة والأزمنة، هناك من سيقول لك: رزق.. سبحان العاطي من دون مناسبة (وهذا صحيح في زمن العثور على كنز في جدار بيت الأجداد)، وهناك من يقول: شطارة (وهذا أيضا صحيح في زمن الكد واحترام قيمة العمل)، لكن السؤال يبقى مفتوحا لإجابات أخرى دفعت مؤسس «السداح مداح» بذات نفسه، لسن قانون: من أين لك هذا؟، ليسأل مثلنا عن سر تكوين الثروات المشبوهة، والمكانة الاجتماعية الرفيعة لأمثال جاتز، وزعتر!
كنت في صباي أتصور أن سكوت فيتزجيرالد أديب من الطبقة الارستقراطية مثل لوردات الإنجليز، ولما وقعت في يدي مذكرات زوجته زيلدا، اصابتني بصدمة مروعة، وكفرت بالأديب ذائع الصيت الذي قضى حياته في الحانات يسكر، ويكذب، ويضرب زوجته، ويخونها، حتى مات مريضا، فاشلا، تعيسا، في الرابعة الأربعين من عمره.
(7)
لما نضجت أكثر، تعلمت أن التاريخ له أكثر من باب، وأنه يستضيف الركاكة بنفس الكرم الذي يستضيف به الرصانة (وربما أكثر)، ويجمع في دفاتره بين الأبطال واللصوص، ويعطي نصيبا كبيرا للحظ، ويعترف بالمؤامرات، ويقبل العملة الزائفة، ويخضع لسطوة الأقوياء، لكن شيئا ما يبقى في العمق ليكشف لمن يسعى، الفرق بين «اللص الوغد» و«اللص الشريف»، بين «البطل الحقيقي» و«البطل القشرة»، والأهم بين البطل الذي تصنعه الظروف والبيئة (صالحة كانت أو فاسدة) وبين البطل المنتصر للوعي التاريخي والمنحاز للقيم والمبادئ الإنسانية.
وهذا ما نعود إليه في المقال المقبل
tamahi@hotmail.com