حرب السويس

محمد حبيب السبت 19-12-2015 22:05

كان إعلان عبدالناصر عن تأميم قناة السويس فى ٢٦ يوليو عام ١٩٥٦ - إضافة إلى أسباب أخرى - وراء العدوان الثلاثى (المعروف بحرب السويس) الذى وقع على مصر فى ٢٩ أكتوبر من العام نفسه، أى بعد إعلان التأميم بحوالى ٣ أشهر.. كانت مؤامرة على مصر، اشتركت فيها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وقد بدأت بهجوم الجيش الإسرائيلى على سيناء، فتصدى له الجيش المصرى، ثم أعقب ذلك إنذار من بريطانيا وفرنسا بوقف الحرب (!) وانسحاب كل من الجيشين، المصرى والإسرائيلى، لمسافة ١٠ كم من ضفتى القناة.. وكان واضحا أن تفقد مصر - بهذا القرار - سيطرتها على قناة السويس.. ولما رفضت مصر الإنذار، قامت كل من بريطانيا وفرنسا بالهجوم على مصر وإنزال قواتهما فى بورسعيد ومنطقة قناة السويس.. فما كان من الاتحاد السوفيتى (آنذاك) إلا أن أصدر إنذاره الشهير لكل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل.. وحتى لا تضيع الفرصة على الولايات المتحدة (الطامحة لاحتلال موقع كل من بريطانيا وفرنسا على الساحة الدولية، وأيضاً فى إيجاد موطئ قدم لها فى مواجهة الاتحاد السوفيتى) فقد سارعت بإصدار أوامرها إلى بريطانيا وفرنسا بالانسحاب الفورى من الأراضى المصرية.. وفعلا تم الانسحاب فى ٢٣ ديسمبر عام ١٩٥٦، وهو اليوم الذى تحتفل فيه بورسعيد بعيدها القومى كل عام.. كان عمر «حسن» آنذاك حوالى ١٣ عاما، لكنه كان يدرك ما يجرى على الساحة.. يتذكر جيدا عندما ذهب مساء أحد الأيام ليلتقى خاله بمقهى شهير بشارع فكرى زاهر بدمياط، حيث كان متواجدا فى جمع من أصدقائه يتابعون نشرة أخبار الساعة الثامنة والنصف مساء من إذاعة القاهرة.. كان ضمن الموجودين أحد الأثرياء الذين جمعوا ثروة كبيرة فى ظروف خاصة.. وعندما قال مذيع النشرة إن الولايات المتحدة أصدرت إنذارا لكل من بريطانيا وفرنسا، صاح الرجل الثرى (مستنكرا): «أمال فين أمريكا.. أمال فين أمريكا؟! فانفجر الجميع فى الضحك رغم المأساة التى تتعرض لها البلاد.. أراد الرجل أن يشعر نفسه والآخرين بأنه «ضالع» فى السياسة، لكنه كشف من حيث لا يدرى، عن مدى بعده عن أبجدياتها، وهكذا يصنع الجهل بأصحابه.. ليس هناك ما يمنع من أن يكون الثرى مثقفا أو حتى «ضالعا» فى السياسة، لكن عليه أن يأخذ بأسباب هذه أو تلك حتى يكون كذلك..

فى تلك الظروف الصعبة، ترك بعض أهالى بورسعيد مدينتهم فرارا مما قد يتعرضون له على يد القوات الغازية.. والهجرة كما نعلم عذاب ومعاناة وآلام وأوجاع.. والتاريخ يذكر لنا هجرات كثيرة ومتنوعة، سواء كانت لإنسان أو حيوان أو طير أو حتى أسماك.. هناك هجرة موسى (عليه السلام) ومن معه إلى أرض فلسطين، وهجرة العذراء وابنها المسيح (عليه السلام) إلى مصر، وهجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة، وهجرة المصطفى (عليه الصلاة والسلام) إلى المدينة، وهكذا.. فأن يترك الإنسان بلده وبيته وأسلوب حياته ومعيشته ليس بالأمر الهين، خاصة أننا نحن الشرقيين عاطفيون، ومرتبطون بمكان نشأتنا ومعيشتنا ارتباطا وثيقا.. هاجر البورسعيديون إلى محافظتى الدقهلية ودمياط - نظرا لقربهما من محافظتهم - عن طريق بحيرة المنزلة، وبرا عبر الطريق الساحلى الضيق الذى يفصل بين الجانب الغربى لبحيرة المنزلة والبحر المتوسط.. وفى المحافظتين المذكورتين، حط المهاجرون رحالهم.. منهم من كان لهم أقرباء فى هذه المحافظة أو تلك، وهؤلاء استقبلوهم واستضافوهم فى منازلهم، بغض النظر عن سعتها أو ضيقها.. إلا أن الأغلبية من المهاجرين لم يكن لديهم أقرباء.. وهؤلاء تم إخلاء الكثير من المدارس لهم للإقامة فيها.. لم يكن لـ«حسن» أقرباء من بورسعيد، وكان المنزل الذى يقيم فيه يضمه وأسرته بالكاد، ومن ثم لم يكن هناك تفكير لاستقبال مهاجرين، فضلا عن أن المنزل لم يكن ذا سقف خرسانى بحيث يقيهم من القنابل التى يمكن أن تسقطها الطائرات أثناء غاراتها على دمياط.. لذا، فقد كان هو وأسرته يغادرون منزلهم فى المساء ليبيتوا حتى الصباح مع الأسر الأخرى - التى تعانى من نفس المشكلة - فى بعض محلات الحى حديثة الإنشاء، وتتميز بوجود سقف خرسانى.. وإسهاما من المحافظة فى تخفيف المعاناة عن المهاجرين الذين يقطنون المدارس، كانت تعرض عليهم بعض الأفلام العربية الكوميدية فى المساء مرة واحدة كل أسبوع.. ولما كان «حسن» من عشاق السينما، فقد كان يطوف على تلك المدارس الواحدة تلو الأخرى للاستمتاع بالمشاهدة.. وقد كان ذلك سببا فى اقترابه منهم والتعرف عليهم.. لقد شعر حسن بأن ثمة عاطفة تربطه بهم، فما إن ينتهى اليوم الدراسى حتى يسارع بالذهاب إليهم ليقضى معهم أوقاتا طويلة.. لقد كانت معاناة المهاجرين شديدة.. صحيح استمرت رحلة الهجرة لفترة قصيرة، لكنها تركت فى نفوس المهاجرين وفى نفسه شعور بالغصة والمرارة.. بالطبع لم يكن يجول بخاطر «حسن» يومها أنه بعد ١٥ عاما - وفى ظروف أخرى مختلفة تماما - سوف يلتقى فتاة من بورسعيد، ويتزوجها، ويرزق منها بأغلى وأحلى ما فى الحياة الدنيا؛ البنات والبنين، ولله فى خلقه شؤون.. من المؤكد أن معاناة المهاجرين والنازحين واللاجئين من سوريا إلى البلاد العربية وأوروبا، أشد عذابا وألما ووجعا.. نعم كانت هجرة الملايين من السوريين إلى البلاد العربية، لكن هناك هجرات أخرى إلى أوروبا وكندا.. وفى بلاد الغربة - بغض النظر إن كانت عربية أو أوروبية - تبقى المعاناة من حيث الشدة والحدة معلما بارزا.. هكذا الحرب، عادة ما تكون مرتبطة بالكوارث والمآسى والأحزان.. الإنسان الطبيعى والعادى لا يميل إلى الحرب، لأنها بطبيعتها خراب، ودمار.. هلاك للأخضر واليابس.. دم، وجراح، وآلام، وأوجاع.. قلق وتوتر وعدم استقرار.. تفقد الزوجة زوجها، والأولاد أباهم، والأخ أخاه، والأب والأم أولادهما، وهكذا.. من نجا من القتل، لم يسلم من الإصابة، وربما من الإعاقة.. لذا قال تعالى: «كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون» (البقرة: ٢١٦)، والمعنى أن الإنسان بطبيعته يكره الحرب، وذلك للآثار التى تترتب عليها، لكنه لا يدرى أين يكمن الخير.. فقد تأتى ظروف يضطر فيها الإنسان اضطرارا لخوض غمار حرب لا يريدها.. وقد أودع الله تعالى فى الإنسان غريزة الغضب والمقاتلة، دفاعا عن الحق والعدل والحرية وحفاظا على الحرمات والمقدسات، وإلا كانت فتنة.. يقول تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين» (البقرة: ١٩٣).