أنتَ خطر على الإسلام

أحمد الشهاوي السبت 19-12-2015 22:05

قد تحذف قصيدةً من ديوان، فتصير الأهم والأبرز فى عصر شاعرها والعصور التالية.

وقد تضايق شاعرًا طليعيا مُجرِّبًا مُجدِّدًا بمنع نشر كتبه فيصير الأكثر شهرةً وعُمقًا فى بلاده، بعدما يكون قد فضَّل الانتحار على العيش مُحاصرًا ومحرُومًا من حرية التعبير والكتابة والنشر.

ففى عام 1931 ميلادية صُودر ديوان «اهدم الرأسمالية لا تتباك عليها» للشاعر المجرى أتيلا يوجف ( 1905 – 1937ميلادية ) بذريعة التحريض.

وقبل هذا الديوان طُوردت قصيدته «بقلبٍ نقىّ» التى نُشرت عام 1925 ميلادية، وكانت سببًا فى طرده من الجامعة، فصارت الأشهر فى المجر، التى باتت تحتفل بعيد ميلاده سنويًّا، وعرف الجميع أن الحادى عشر من إبريل هو يوم الشعر المجرى، اليوم الذى وُلد فيه أتيلا يوجف.

ولم يتحمَّل عقل الشاعر الكبير الموهبة ما يُمارس ضده من السلطات فجُنَّ، ومات منتحرًا وهو فى الثانية والثلاثين من عمره، تاركًا اسمًا وشعرًاً كبيرين.

هكذا تفعل الرقابة والمصادرة ومنع وقمع الحريات، إذ ربما تقتل أصحاب الإبداع، لكن إنتاجهم يظل سيفًا مُشهرًا فى وجوه الجلَّادين وضيِّقى الأفق والظلاميين من أصحاب الفكر المتطرف، وكارهى الحداثة والتجديد والبحث والمساءلة، فلا شىء مقدسًا فى العلم والإبداع، يشهد على رجعيتهم وتخلُّفهم، ولا ينسى لهم التاريخ كم هم معادون للفكر وحرية الرأى، فما أسهل عليهم اتهام من ليس موافقًا لأفكارهم بأنه كافر وملحد وزنديق وخارج على القيم والأعراف والتقاليد والدين، وضد الله ورسوله وغير مؤمن بالرسالات السماوية. إنها تهم جاهزة تُشْهر فى وجه أصحاب الرأى الآخر.

وفى مصر – على سبيل المثال – أسماء لشيوخ ينالون شهرتهم ومكانتهم فى الأوساط الدينية من رفضهم للكتب أو الأفلام أو المسرحيات أو الأغنيات أو أى أعمال إبداعية لا تتواءم مع ميولهم، بل المثير للدهشة، أن أحكامًا تصدر بالمصادرة والمنع والاتهامات الظالمة دون قراءة الكتاب أو مشاهدة العمل، وهو ما أسمِّيه

«التفكير بالسماع».

إننا نعيش سباقًا فى معاداة الإبداع، فلا يمر أسبوع دونما أن يوافق مجمع البحوث الإسلامية التابع لمشيخة الأزهر على مُصادرة كتاب، أو بضعة كتب مرةً واحدةً فى جلسةٍ واحدةٍ. وليس كل كتاب يمنعونه يعلم به الإعلام، بل أعرف أن صاحب الكتاب الممنوع – مثلاً – لا يستطيع أن يأخذ التقرير الذى صدر ضد كتابه.

وهذا ما حدث مع كتابى «الوصايا فى عشق النساء» بجزءيه الأول 2003 ميلادية والثانى 2006 ميلادية، فاللجنة التى أصدرت فتواها فىّ، وفى كتابى لم يقرأ منها سوى واحد لم يكمل الكتاب، كما أننى لم أحصل – حتى الآن – على صُورة من ذلك التقرير بصفةٍ رسميةٍ، إنما للأسف أخذته من أحد المُحرِّرين الدينيين، يعنى أن المبدع يُكفَّر دون قراءةٍ، ودون أن يعرف لماذا؟.

فكيف بالحظر والمنع والمصادرة والطمس والحذف والفسخ سيتقدم العرب.

إن أشكال الرقابة فى الوطن العربى عديدة ومتنوعة، تختلف من دولةٍ إلى أخرى، فبدل أن نلاحق الأمية والتخلف، نقوم بملاحقة الإبداع حفاظًا على الأمة، وخوفًا على عقول أبنائها، من قصيدة أو رواية أو قصة قصيرة يمكن أن تحدث انقلابًا أو تقيم مظاهرة، أو تسقط حاكمًا أو وزيرًا.

ما يحدث ليس حدثًا مُفردًا لا يتكرر، لكنه حملة منظمة ضارية تُقدِّم العرب على أنهم متخلفون، قامعون، ضد الحريات، بل هم يتراجعون عما كان أسلافهم عليه قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة.

فما أصعب على النفس أن تغتال حرية كاتب، وتقصف قلمه، وتمنعه من النشر، فى زمنٍ صار كل شىء فيه مفتوحًا متاحًا.

فحرية الاختلاف مطلوبة بل ضرورية لازدهار الفكر، فليس هناك معيار واحد للحكم على مبدع أو عمل فنى، إذْ تتجاور الرؤى والجماليات، ولا يمكن تسييد شكل أو رأى واحد باعتباره الصواب، وما دونه خطأ وجريمة، فأى دستور يكفل حرية التعبير والرأى والبحث العلمى، خذ مثلا المادة التاسعة والأربعين من الدستور المصرى حيث: «تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمى والإبداع الأدبى والفنى والثقافى، وتوفر وسائل التشجيع اللازمة لذلك».

وللأسف لا نرى أحدًا يحمى الدستور، أو يدافع عن المبدعين خُصوصًا الجهات المنوط بها ذلك، وإلا لما تكاثرت حالات القمع والمصادرة وكبت الحريات، ولا يعقل أن جهات فى الدولة المصرية تتعاضد مع قوى ظلاميةٍ متطرفةٍ لتقييد الحريات وقتلها.

أعرف أن هناك كثيرين ضحايا لمحاكم التفتيش العربية أشهرهم: طه حُسين، نجيب محفوظ، لويس عوض، نصر حامد أبوزيد، على عبدالرازق و...

فهل لم يئن الأوان لنغلق القائمة، بدلاً عن الفضيحة التى نمارسها فى حق أنفسنا بتكرار المُصادرات، وهى فضيحةٌ عالميةٌ لم تعد محلية أو عربية فقط، لأنها قوت للآخر الغربى، يتغذى عليها مردداً:

«(انظر كم هؤلاء العرب متخلفون)». إن ما ننفقه لتجميل صورة العرب، يضيع فى مصادرة كتاب، لأن خبر المصادرة ومتابعته ينشر فى مئات الصحف فى العالم.

ولم تعد المصادرة – سرًّا – أمرًا يفلح، لأن كل شىء يُعرف فى الحين نفسه.

وقد أرسلت إلىّ مؤسسة نرويجية مدنية تدافع عن حرية التعبير اسمها

«beacon of freedom of expression»

قرصًا مدمجًا (cd) يحتوى المُصادرات التى وقعت فى مصر خلال السنوات الأخيرة.

إن المصادرة جريمة ينبغى أن يعاقب من قام أو اضطلع بها، بدلا عن معاقبة صاحب العمل المصادر.

فلا مصادرات تقع إلا فى ظل حكومات قامعة فاشية، وفى ظل سيطرة وهيمنة جماعات دينية متطرفة، لها قوتها وحكمها، وليست محاكم التفتيش فى إيطاليا وإسبانيا بعيدة عن الأذهان.

وبدلا عن أن تكون المصادرة استثناء، صارت هى الأساس، مع أن الإباحة هى الأصل.

فالشعر ليس سرًّا عسكريًّا يمنع، والرواية ليست مُخطَّطًا حربيًّا سيعرض البلاد إلى كارثة تحدق به، حتى نخشى من الحروف التى تخرج من الصفحات متصورين أنها قاصفاتٌ سترجم ألباب من قرأوها، ولذا ينبغى قصفها من المهد.

لا أحد يستطيع أن يصادر أحدًا أو يلغيه، لأن فى الإلغاء حياة، وفى المصادرة بقاء.

والكتاب المصادر يسافر بعيدًا عن وطنه الذى لم يستطع أن يحيا فيه بفعل عوامل الموت، لذا ينبغى أن نتخلى عن فقه المُصادرة، مُغادرين أرض ثقافة الإلغاء، لأن الثقافة العربية والإسلامية لم تزدهر إلا بتنوُّعها وتعدُّدها، إذ لم تعرف الخوف ولا التردُّد ولا التناقض، فى حين نجد أن المؤسسة الدينية صارت المُصادرة أسلوبًا ونهجًا لها فى التعامل مع المُجدِّدين أو المُخالفين لآراء وأفكار ومعتقدات من يتعاملون معها، أوهم جزء منها، وهؤلاء إذا ما أوصوا بمصادرة كتاب، فتحوا صنبور الصيغ الجاهزة لوصْم الكتاب وصاحبه من مثل: «الكتاب يمثل خطرًا على الإسلام»، «نوصى بعدم تداوله حفاظًا على العقيدة الإسلامية الصحيحة» وغيرها من الصيغ، وكان من الأجدر والأولى بهم أن يردُّوا على الفكر والإبداع بفكر وإبداع مماثلين.

ahmad_shahawy@hotmail.com