أول ما فعلته بعد أن قطعتُ شوطًا في القراءة هو استشارة محركات البحث على الإنترنت عما إذا كان السيد «هاتوري ماساناري» كائنًا من لحم ودم!
لم يقدني البحث السريع سوى إلى النقطة التي بدأتُ منها؛ رواية «الخالق» للكاتب أحمد شافعي، الصادرة عن دار الكتب خان عام 2013م، فعدت لاستكمال القراءة.
قراءة الإبداع عملٌ تواطؤي في المقام الأول، بمعنى أنها عملية يلزمها – لكي تكتمل- قدرًا من تواطؤ القارئ، وهو تواطؤ اضطراري أو بعبارة أخرى تواطؤ لا غني عنه؛ فكما أن الكاتب ليس ملاكًا يكتب من أجل عالم أفضل، فإن القارئ –أيضًا- ليس ملاكًا يقرأ من أجل خير البشرية، إنما هو باحث عن منفعة ما، مباشرة – حتى لو كانت مجرد شَغل الوقت إلى أن يصل المترو إلى محطة عمله- وهو من أجل تحقيق هذه المنفعة يتواطئ مع الكاتب ويمرر له الكثير من الأشياء، «بمزاجه».
من الفكرة السابقة، دعنا نستخلص قاعدة محددة: «كلما قلت نسبة التواطؤ المطلوبة من القارئ لمتابعة عمل والحصول على متعته منه، كلما كان العمل جيدًا».
هذه القاعدة تدفعنا لنحاول دراسة حالات ارتفاع -أو انخفاض- نسب التواطؤ مع النصوص، ونظرًا لاستحالة تعميم الأمر على كل القراء – حيث تتأثر نسب التواطؤ بمؤثرات كثيرة أهمها ثقافة القارئ وتجاربه القرائية السابقة واستعداده النفسي، (وربما درجة ازدحام المترو ساعة القراءة)، لذلك فعلينا أن نبحث «داخل النص» عن الصفات التي من شأنها تقليل حاجة القارئ بشكل عام إلى درجات عالية من التواطئ.
أن تتواطئ مع إنسان -أو موقف- يعني أنك تعرف من خباياه وعيوبه ومثالبه ما يمكن الحديث عنه، لكنك -إكرامًا لخاطر شئ ما- تتغاضى عن ذلك، على اعتبار أن هناك من الإيجابيات ما يمكن التركيز عليه والإنطلاق منه، طالما في الأمر مصلحة أو منفعة ما.
إنه ليس فعلًا شريرًا على طول الخط، فقد يكون التواطئ أمرًا طيبًا، كما أن المنافع المرجوة منه بريئة ونبيلة بالطبع!
إذا كنا نجحنا الآن في نحت مصطلح «القراءة بتواطؤ» فما هي الحالة المعاكسة لذلك التي يمكن الحديث عنها؟
إنها حالة «الأخذ»؛ أن يأخذك النصُّ إلى عالمه فورًا، من دون أن يمهلك لارتداء زي المتواطئ، فتجد نفسك بالداخل، آملًا في العثور على مقعد لتستريح وتلتقط أنفاسك من شدة الانسجام، أو مرتدًّا – بين الحين والآخر- في القراءة إلى الخلف باحثًا عن المأخذ الذي أٌخذت منه على حين غرة، غير مصدق أنك سقطت بهذه السهولة في الفخ!
هذا تحديدًا ما فعلته معي رواية «الخالق».
في اليوم التالي لسقوطي في عالمها، وبينما أتحدث عنها مع صديق تجمعنا اهتمامات بالكتابة، ضبطت نفسي أتحدث بحماس واستفاضة مستذكرًا تفاصيل العالم الذي أخذتني إليه الرواية، تحمست إلى أن انتبهت إلى أنني – فيما يبدو- رحت أحمّلها ما بدا لي -وقت الحكي- مشكوكًا في وجوده داخلها أصلًا، ولكنني استمرأت الأمر ورحت أحكي، واكتفيت بأن قلت لصديقي: «ربما أكون مأخوذًا بزيادة، فلا تقرأ الرواية بعيني من فضلك» وسكتّ.
كان على أن أعود إلى «الخالق» مرة أخرى لأتأكد أن ما اقترحتُه مخيلتي خلال الحديث- وإن كان بالفعل ليس موجودًا فيها بشكل مباشر- إلا أنه يخصها ولا يخص نصًّا غيرها؛ هي فقط اقترحته على خيالي القارئ، من دون استئذان ولا نية مسبقة في التواطؤ.
إنه «الأخذ» في أحد تجلياته البديعة.
لم يلجأ شافعي في كتابته «الخالق» إلى المجاز اللغوي؛ بمعنى «صرف اللفظ عن معناه الظاهر»، فكل لفظ تقريبًا في الرواية يلعب في مساحة المعنى الظاهر ولا يتعداها. والجمل خبرية مباشرة لا تتلاعب ولا تراوغ، فهو يستهل الفقرة رقم 1 مثلًا هكذا: «عندما بلغ الياباني»هاتوري مساناري«الرابعة والثلاثين، كان يبدو وكأنه في السبعين. وكل من رأى صورته الأخيرة مع زوجته»ريتا«– 36 عامًا آنذاك- وامبراطورة اليابان، لابد وأن يكون تساءل عما يمنع هذا الشاب الثري من الإنفاق ولو قليلًا على جراحي التجميل ليحصل على الوجه الذي يستحقه».
بعبارات واضحة ومباشرة وخالية من المجاز كالسابقة، نجحت رواية «الخالق» في خلق مجاز بديع بالمعنى الفني، فباتت عملًا متعدد الأسطح، لا يسّلم نفسه بسهولة لقارئه، بل يستدرجه طبقة وراء طبقة – بالأحرى سطحًا مخاتلًا وراء سطح- إلى أن يجد نفسه في غمرة العمق.
مع «الخالق» لن يستمتع القارئ كثيرًا بلذة المتواطئ، لكنه سوف يجرب لذة أخرى وهي «الأخذ»؛ فالرواية سرعان ما تأخذ قارئها ولا تترك له الفرصة للانتشاء سوى بمحاولة تسلق البناء الزلق الذي أسسه شافعي بمهارة عنكبوت فبات جديرًا باقتناص القارئ. هذه مجرد تحية عابرة لرواية باهرة.
waleedalaa@hotmail.com