تشير بحوث عديدة أُجريت عن فترة «العشرية السوداء» فى الجزائر إلى أن «المكون الأفغانى» كان عنصراً أساسياً فى تفجير الحالة القتالية، التى شهدها ذلك البلد فى تسعينيات القرن الماضى.
فقد سافر الشبان الجزائريون، الذين أظهروا قدراً كبيراً من الالتزام بالنهج «السلفى الجهادى»، إلى أفغانستان لـ«الجهاد» ضد «العدو السوفييتى»، الذى وصفته بعض الأدبيات الدينية و«الدولتية» العربية آنذاك بـ«الملحد».
وعاد بعض هؤلاء الشبان، أو معظمهم، إلى بلادهم، بعدما تلقوا تدريبات عسكرية رفيعة، وانخرطوا فى معارك طاحنة، واحتل بعضهم مناصب قيادية، وزادت قدرات الحشد والتعبئة والتجنيد لديهم.
لم تكن معظم الدول العربية التى ذهب بعض مواطنيها إلى «الجهاد» فى أفغانستان تمتلك سياسات واضحة لـ «احتواء العائدين»، ولذلك، فقد كانت بعض الممارسات التى خضع لها هؤلاء العائدون سبباً فى اتجاههم إلى ممارسة العنف المسلح فى بلادهم.
وقد ظلت قضية «العائدين من أفغانستان» صداعاً فى رأس حكومات عربية كثيرة حتى وقت قريب.
يبدو أن الدول الغربية التى تورط بعض حاملى جنسياتها فى الذهاب إلى الأراضى السورية والعراقية والمحاربة فى صفوف «داعش»، وبعض التنظيمات ذات الإسناد الدينى هناك، بدأت فى تطوير استراتيجيات واضحة للتعامل مع خطر «العائدين من سوريا».
ففى الوقت الذى تتجه السلطات البلجيكية فيه مثلاً إلى فرض قيود كبيرة تصل إلى اعتقال كل من يعود ويثبت أنه قاتل فى صفوف «داعش»، ووضع أساور إلكترونية لفرض رقابة على هؤلاء الذين تثور الشكوك فى ميولهم وارتباطاتهم بالحركات المقاتلة فى سوريا والعراق، تتخذ الدنمارك اتجاهاً مغايراً تماماً.
يؤكد مسؤولو جهاز الاستخبارات الدنماركى «بى أى تى» أن نحو 110 من الدنماركيين ذهبوا إلى القتال فى سوريا.
وأعلن الجهاز فى ديسمبر 2014 أن نصف هؤلاء عادوا إلى الدنمارك، وأن 16 منهم قتلوا أثناء قتالهم فى صفوف «داعش».
وتمارس الحكومة الدنماركية ما يمكن وصفه بـ«سياسات استعادة واستيعاب» للعائدين من سوريا، عوضاً عن سياسات الاعتقال والإخضاع للمراقبة أو الإقامة الجبرية.
ومن ضمن تلك السياسات التى تمارسها كوبنهاجن حيال هؤلاء العائدين من أراضى القتال فى الشرق الأوسط إخضاعهم لجلسات علاج نفسى مكثفة، وتوفير منح دراسية لبعضهم، ومنح بعضهم الآخر وظائف.
لكن تلك السياسة تلقى انتقادات من جانب بعض الدول الغربية الأخرى، كما أنها تثير الشكوك لدى بعض دول أوروبا، وهو الأمر الذى يبدو أنه سيكون دافعاً لمراجعة بعض الإجراءات الأمنية المشتركة بين دول القارة، ومنها بالطبع نطاق تأشيرات الدخول الموحد (فيزا شنجن).
«العائدون من سوريا» يشكلون صداعاً فى رأس دول غربية عديدة، خصوصاً بعدما برهنوا على قدرة كبيرة على توجيه ضربات إرهابية مؤلمة، لكن تلك الدول بدأت فى العمل على مواجهتهم أو استيعابهم.
يفرض المقاتلون العرب فى سوريا والعراق تحديات أكبر على الدول العربية، خصوصاً أن أعداد المنخرطين منها فى القتال هناك يمكن أن يكون عشرة أضعاف المقاتلين الغربيين.
وقد تورط بعض هؤلاء العائدين فى هجمات إرهابية فى دول عربية عدة بالفعل، كما اعترف بعض «العائدين التائبين» على شبكات التلفزة فى مصر وتونس والسعودية بأنهم تلقوا تعليمات بشن هجمات فى بلادهم.
يجب أن يتم تطوير سياسات وطنية وعربية ناجعة لمواجهة مخاطر «العائدين من القتال فى سوريا والعراق»، على أن تنطوى تلك السياسات على أقصى قدر من التنسيق والتعاون العربى، وقد يكون ثمن التقاعس عن تطوير مثل تلك السياسات فادحاً.
ومن المؤسف حقاً أننا فى مصر لم نعلن أى تقييم واضح لأعداد وسمات المقاتلين المصريين فى الأراضى التى يسيطر عليها تنظيم «داعش»، وبالطبع فإننا لم نطور سياسة ناجعة وواضحة لمواجهة هذا الخطر.