كان المجتمع المصرى حتى وقت قريب مزينا بالقيم النبيلة: «القناعة، الرضا، النخوة، الشرف، العمل الجاد، احترام الكلمة، الحفاظ على القانون، حب الجمال، الإيمان بالمساواة والعدالة الاجتماعية»، وغيرها من الفضائل التى كانت تزيد أبناء المجتمع تماسكا وتراحما وثقة فى الذات والآخر وتغذى فيهم الإحساس بالطمأنينة والأمن والأمان.
كان من الصعب أن يسىء الجار إلى جاره أو يتنكر الصديق لصديقه أو يتجرأ الابن على أبيه أو يهوّن الزوج فى عين زوجته أو يخون المواطن وطنه، كان من الصعب أن تجد ثريا لا يساعد فقيرا، أو كبيرا يستفحل على صغير، أو شيخا يتاجر بالدين، أو لصا يتحرك فى وضح النهار، الكل يعرف ما له وما عليه.
لكن ولأسباب كثيرة يحدث الخلل فى منظومة القيم وتكاد تنهار الأخلاق، خاصة مع منتصف سبعينات القرن الماضى، لعل أبرز هذه الأسباب:
أولا: اتجاه سياسة الدولة من التقييد إلى الانفتاح، ومن التدخل فى شؤون الاقتصاد إلى الانفراج والحرية، ومن الاشتراكية المتحيزة للفقراء إلى الرأسمالية المتوحشة، مما أدى لحدوث صراع مروع بين التمسك بالقيم والتمسك بالمال، بين الحفاظ على اللغة والتراث والتاريخ أو الذوبان فى كل ما هو أجنبى باعتباره المصدر الأعلى للدخل، ولأن المادة باتت هى الغاية ولظهور أثرياء سكنوا الفلل والقصور وركبوا أفخم السيارات ولبسوا أجود أنواع الملابس وأكلوا وشربوا وعاشوا كالملوك - رغم أنهم كانوا صعاليك حتى وقت قريب - فقد حسم الأمر وفتحت شهية الكثيرين لبلوغ الثروة بأى طريقة ومن أى مصدر مشروع أو غير مشروع، فالذى يمتلك الآلاف يريد الملايين والذى يمتلك الملايين يريد المليارات، حتى لو باع الخدمات المجانية وتقاضى الرشوة وبنى أبراج الموت وتاجر فى المخدرات وتهرب من الضرائب وحصل على قروض دون ضمانات واستورد الأغذية الفاسدة ومارس الاحتكار... إلخ.
ثانيا: غياب العدالة بكل أنواعها، فإذا كان الانفتاح قد أدى لقلب الهرم الاجتماعى فإنه أدى كذلك لتغير الأولويات، فالهجرة بحثا عن المال باتت أهم بكثير من الصبر على بناء الوطن، والحرص على بلوغ مرتبة لاعب الكرة أو الممثل أولى من الحصول على أرفع الدرجات العلمية، وعندما تتناقض الأولويات تضيع كل معانى العدالة، وهو ما لوحظ مع بداية ثمانينات القرن الماضى حيث اختفت العدالة الوظيفية بسبب المحسوبية، والعدالة السياسية نتيجة تزوير الانتخابات والعدالة الاقتصادية بسبب الرشوة والفساد، والعدالة الاجتماعية بسبب تلاشى الطبقة الوسطى، ومن ثم باتت قيم النفاق والوصولية والنفعية والتواكل والصعود على أكتاف الآخرين صفات مرغوبة ومقبولة بل مرحبا بها رسميا وشعبيا.
ثالثا: التراجع الحاد فى الكثير من القيم مثل قيمة العلم وقيمة العمل وقيمة التدين وقيمة الجمال وقيمة الأمانة.
رابعا: ظهور الشركات الانفتاحية والبنوك الخاصة ومكاتب التصدير والاستيراد والمكاتب الاستشارية الأجنبية بحيث أصبح العمل فى خدمة كل ما هو أجنبى هدفا متميزا يسعى لبلوغه الصغير والكبير، حتى يضمن لنفسه مكانا مرموقا.
خامسا: غياب دور الأسرة خاصة فى الاهتمام بالقيم الدينية والخلقية وانشغالها بالكسب المادى من أجل تلبية حاجات أفرادها، وكذلك غياب التخطيط الحكومى فى تنمية الشباب خلقيا وفكريا.
سادسا: غياب الرقابة والشفافية والتخطيط والتعليم والإعلام والقدوة والمشروعات القومية وغياب أشياء كثيرة كان من المفترض أن تسهم فى إعادة بناء وجدان الناس وتنمية أذواقهم ومشاعرهم وإحساسهم بأنفسهم وبواقعهم.
أسباب كثيرة هدمت ثوابت المصريين وأفقدتهم الثقة فى بعضهم البعض وجعلتهم يشكون فى أى شىء، أسباب كثيرة كادت تعزل شرائح المجتمع المصرى وتجعل كل شريحة منها وكأنها عالم فى ذاتها وتسىء لسمعة المصريين فى الخارج وتحولهم من شعب كان مسلحا بالنبل والشهامة والانتماء للوطن إلى شعب مادى منفلت متمرد تآكلت منظومته القيمية والأخلاقية، فهل نصبر على هذا الانهيار القيمى حتى تنهار الدولة المصرية؟ يقول أمير الشعراء أحمد شوقى:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا.