أعقد المشكلات التى تواجه أى مؤسسة هى تحولها إلى مجرد شكل، هيكل فارغ تصفر فيه الريح. وتزداد المشكلة إن تم هذا مبكرا، بل قبل أن تشرع تلك المؤسسة فى ممارسة مهمامها أصلا. فقبل أن ترسب المؤسسات فى أداء مهامها، تسقط فى عيون الناس، وبالتالى لا يعولون عليها، حتى وإن كانت قد خرجت من تحت آباط البعض منهم. فحتى من صنعوها قد يراجعون أنفسهم فيما بعد، ويبدون ندما على أنهم قد ساهموا فى هذه العملية، وقد تتاح لهم فرصة تصحيح ما وقعوا فيه من خطأ. مشكلة هذا البرلمان أنه ولد على غير رضا تام من السلطة التنفيذية، التى كانت قد استمرأت العمل حرة من دون رقابة، فالرئيس يصدر القوانين، والحكومة تفعل ما تريد، ولا يسائلها إلا الرئيس فى الغرف المغلقة، وقد تجد نفسها أحيانا محرجة أمام الإعلام، لكنها بمرور الوقت اعتادت أن كلام الليل فى الفضائيات ما إن تمسسه شمس الصباح حتى يذوب. ومشكلة هذا البرلمان أنه جاء على غير رضا من جزء كبير ممن لم يذهبوا إلى لجان الانتخاب، وهؤلاء يرسمون من الآن معالم طريق نقده ونقضه، بعضهم بفعل نفوس مصدودة من حياة سياسية تزداد بؤسا، وبعضهم بفضل عقول أدركت أن المقدمات الخاطئة التى وضعت لهذه الانتخابات لن تؤدى إلا إلى نتائج خاطئة. وأتحدث هنا قطعا عمن يرتضون بالشرعية السياسية الحالية، ووقفوا معها ضد أولئك الذين يرفضونها من الإخوان وأتباعهم، ومع هذا فهؤلاء المتساوقون مع الشرعية لا يروق لهم أن تباع مقاعد البرلمان وتشترى، على النحو الغريب، وبهذا القدر من التبجح، وفى صورة مزرية، وصلت إلى درجة أن صفحات الصحف الأولى كانت تعرض أسعار الأصوات كما تعرض أسعار الخضروات.هناك من قالوا فور قيام الثورة: لا تصدقوا النخبة، وكان الهدف هو الاغتيال المعنوى لقادة الرأى والعمل السياسى. وقبل الانتخابات هناك من قالوا: لا تصوتوا للأحزاب، وكان الهدف تفريغ الساحة السياسية من جديد أمام حكم الفرد. والآن يقولون: لا تأخذوا البرلمان على محمل الجد، والهدف هو قصم ظهره قبل أن يقف على قدميه، وللأسف فإن تركيبة البرلمان الحالية قد تجعل هذا المطلب مستساغا لدى عموم الناس، وتلك هى المشكلة والمعضلة بل المأساة، فأى تركيبة هى؟
لا يمكن تحليل تركيبة النخبة البرلمانية المصرية بشكل علمى دون توافر معلومات كاملة ودقيقة عن كل أعضاء مجلس النواب الحالى، ومن ثم سأذهب هنا إلى رسم ملامح عامة، أو خطوط عريضة، أو تعاريج خريطة، ومؤشرات دالة، للنخبة المصرية، فى النقاط التالية، التى يمكن تطويرها لإعداد دراسة كاملة عن هذه المسألة:1 ـ الخلفية السياسية: وندرس توزيع النواب على اليمين واليسار والوسط، مع الأخذ فى الاعتبار تراجع التحيز السياسى بصفة عامة لدى أغلب الأعضاء، ثم تقسيمهم إلى حزبيين ومستقلين، وكذلك رصد تاريخ العلاقة بين كل نائب وبين السلطات السياسية المتعاقبة.
2 ـ الخلفية الاجتماعية: ونهتم هنا بتوزع النواب على الريف والحضر، مع الانتباه إلى ظاهرة «تريف المدينة» و«تمدين الريف» التى تعرفها مصر حاليا، ثم تصنيفهم الطبقى (عليا ـ وسطى ـ دنيا) بوضع أسباب لهذا التصنيف إما بالمعيار الماركسى أو وفق الدخل المادى، ثم خلفياتهم المهنية المتنوعة.
3 ـ الخلفية الثقافية: وهنا ننظر إلى مستوى التعليم، من حيث المؤهل الدراسى ونوع التعليم وهويته، مصرى أم أجنبى، ثم المستوى الثقافى للنواب وفق معايير تقيس هذه المسألة المعقدة.
4 ـ مقدار تجدد النخبة: وفى هذه النقطة نحدد عدد الذين وردوا حديثا إلى البرلمان مقارنة بمن دخلوه من قبل، وهؤلاء يصنفون إلى من كانوا نوابا قبل ثورة يناير أو بعدها، وعدد الفصول التشريعية التى شاركوا فيها، ثم ندرس توزيعهم العمرى (شباب ـ كهولة ـ شيخوخة).
5 ـ مستوى تدوير النخبة: أى من كانوا متولين مناصب تنفيذية أو إدارية فى الدولة قبل أن يصيروا نوابا فى البرلمان، وهنا ندرس أيضا لماذا غادروا مناصبهم؟ وهل تغيروا فى مواقفهم السياسية أو أفكارهم عقب ثورة يناير أم عادوا إلى سيرتهم الأولى؟
6 ـ مدى إدراك النخبة البرلمانية لدورها أو مهمتها، ومستوى شعور كل نائب بكينونته واستقلاليته، وإدراكه للسلطة والمجتمع والقضايا المهمة التى تشهدها مصر فى الوقت الراهن، داخليا وخارجيا.
7 ـ كيف يدرك الناس النخبة البرلمانية، هل هم عبدة للمناصب والشهرة؟ أم مغامرون؟ أم مقامرون؟ أم منافقون؟ أم انتهازيون؟ أم راغبون فى خدمة الناس والدفاع عن المصلحة العامة؟ وتدرس هذه النقطة بتفاصيلها لدى كل نائب على حدة.
8 ـ مدى ملاءمة هذه النخبة للسياق السياسى ـ الاجتماعى الذى تعيشه مصر فى ظلال الثورة، وحجم التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المطروحة، وما إذا كان البرلمانيون الحاليون يقدرونها حق قدرها أم لا؟، وما إذا كانت لديهم حلول حقيقية لها من عدمه؟
9 ـ حجم الكتل البرلمانية، والتى يبدو للوهلة الأولى أنها ستتوزع على كتلة كبرى تسعى لتسمية نفسها «ائتلاف الدولة المصرية» وتحاول أن تحصل على الأغلبية الميكانيكية (أزيد من الثلثين) وتنحاز إلى الرئيس، ثم كتلة أصغر بكثر فى الاتجاه المضاد، بينهما متأرجحون ينتقلون بين هنا وهناك حسب المواقف والقضايا والمنافع الذاتية. وهناك «حملان شاردة» وهم مستقلون تماما عن كل هذه الكتل، يحاولون أن ينقلوا صوت القوى الاجتماعية التى لم تمثل مصالحها فى التركيبة البرلمانية الحالية.
10 ـ مستوى التفاعلات البينية لهذه النخبة، أى الخطابات والتصرفات التى تبديها التكتلات داخل البرلمان إزاء بعضها البعض، وما إذا كانت تمضى فى طريق التنوع الخلاق والاختلاف المفيد بحثا عن التكامل، أم الشقاق والتنابذ الذى ينزلق بالأمور إلى الصراع.وفى حال اكتمال المعلومات حول النخبة البرلمانية الحالية ثم تحليلها وفق العناصر السابق ذكرها تكون لدينا خريطة واضحة بالبرلمان الحالى، ووقتها يمكن أن نتوقع مدى فاعليته واستمراريته وتمثيله للمصالح الاجتماعية وتعبيره ودفاعه عنها، وحجم اتصاله بالسلطة السياسية، ومستوى التفاعل أو التعامل داخل البرلمان، وما إذا كان هذا سيخلق صورة إيجابية عنه لدى الناس أم سيسقط فى نظرهم منذ جلساته الأولى؟ بعض الإجابة فى النقطة التالية. هناك فارق بين «برلمان» يشرع ويراقب ويناقش الموازنة العامة ويقرها ويشارك السلطة التنفيذية فى صناعة السياسات، وبين قاعة وسيعة للثرثرة والشجار والتبجح والسباب وتربيط المصالح الضيقة والشعور الزائف بالوجاهة، والاستمتاع بحصانة هى للمهمة وليست للشخص، والاستفادة من الاقتراب من السلطة. فالشكل الأول لازم وضرورى إن كان «نواب الشعب» يدركون حجم التحديات التى تواجه الوطن، والشكل الثانى مرفوض تماما لأنه يحوله من «برلمان» إلى «بار.. ليمان» أى ملهى وسجن معا، وفى الملهى قد نجد التائهين واللاهين والعابثين والسكارى، وفى الليمان أو السجن قد نجد الجانحين والمجرمين والخطائين، ونكابد من تصرفاتهم وتصوراتهم، التى لا يجيدون غيرها. ورغم أن مقدمات هذه الانتخابات كانت معوجة فجاءت بنتائج ليست على ما يرام، فى الغالب الأعم، فإن الأمل لم يسقط بعد فى أن من صاروا نواب الشعب سيكونون على قدر المسؤولية، لاسيما أن من بينهم نبهاء مروا بكفاحهم الشريف، وغير ذلك ستكون الطامة الكبرى.