أبكى على أطلال إسكندريتى

اخبار الخميس 10-12-2015 21:10

بقلم لوتس عبدالكريم:

ما الذى حلَّ بإسكندريتى التى صارت يبابًا خرابًا؟ لقد أغرقتها مياه الأمطار، ومياه المجارى، حيث اختلط البحر بالبر، ومات الصغار، وغرق الكبار، وانهارت المنازل فوق السكان، وتسلَّلت المياه إلى الفيلات والبيوت، فأتلفت الحياة، وساد الحزن، وأصبح الألم يعتصر كل نفسٍ.

إذ منذ أربعين عامًا طال مدينتى الإهمال، وصار الجهل وعدم الاكتراث واللامبالاة عنوانًا للإسكندرية، التى لم تعد تعرف الصيانة والإصلاح، والحفاظ على معالمها المعروفة ومبانيها الأساسية، حيث أُهيل على الصرف الصحى تراب التسيُّب والفساد، وبُنيت عمارات بطرقٍ غير قانونية سدَّت منابع الصرف والبيَّارات، مما جعل المدينة تختنق من أى مطرٍ خفيف ينزل، وهكذا انتهت الإسكندرية إلى الحال التى صارت عليها الآن.

فالإسكندرية منذ طفولتى المبكرة، مدينة ذات شوارع واسعة نظيفة، تُزيِّنها أشجار وحدائق، وتهب نسائم البحر عليها دون حواجز من أبنيةٍ شاهقة خنقتها بعد ذلك ولاتزال، إذ كانت أماكنها مرايا تنطق رُقيًّا، ومبانيها الجميلة سكنى وذكرياتى، حيث كان فى كل منزل أسرٌ تتكلم لغات العالم، خُصوصًا الإيطالية والفرنسية، وكان بحرها الصريح العميق زاخرًا بصنوف المتع الروحية والمادية.

كانت الإسكندرية منارةً للفلسفة والحكمة والشعر والعلم، وكانت سكنًا لكل الأجناس الأوروبية، خصوصًا الإيطالية واليونانية، وعاش فيها الفلاسفة والشعراء على مر العصور، إذ هى ليست فقط مدينة سيد درويش وبيرم التونسى ومحمود سعيد ومحمد وعفت ناجى وسيف وأدهم وانلى ويوسف شاهين، وعشرات غيرهم، بل كانت دائمًا مقصد المبدعين من العالم، وقد خلَّدها (كما أنها خلدته) كل من قسطنطين كفافيس فى شعره، حيث وُلد وعاش ومات فيها، ولورانس داريل صاحب رباعية الإسكندرية.

لقد عاش الشاعر اليونانى السكندرى كفافيس فى الإسكندرية عندما كانت مدينةً تزخر باليونانيين الذين لعبوا دورًا كبيرًا فى حياتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وكتب الروائى البريطانى فورستر كتابًا عنوانه (الإسكندرية.. التاريخ والدليل)، ومما كتبه عنها: (أنتم أيها المصريون لا تُقدِّرون قيمة الإسكندرية، وتنظرون إليها كمجرد مصيفٍ لها شواطئ جميلة ونسيم بحرى، ولكن مدينتى مختلفة، إنها الإسكندر الأكبر، وفنار فاروس، والمكتبة العظيمة التى حفلت بأحسن كتب العالم، وكانت مركزًا للبحوث والمعرفة واللغة والأدب والعلوم والفلك والفنون والفلسفة والرياضيات والجغرافيا والطب، لقد كانت الإسكندرية تُصدِّر المعرفة إلى أوروبا والعالم).

وحين قدم الفرنسيون إلى الإسكندرية اهتم نابليون بها كثيرًا، ثم جاء محمد على وجعلها العاصمة الثانية، حيث حوَّلها إلى ميناء لأسطول مصر، وأنشأ فيه حوضًا لبناء السفن، وأصبحت الإسكندرية مركزَ ثقلٍ فى السياسة والحرب، ثم كان الخديو إسماعيل الذى سار على نهج محمد على، واستطاع أن يجعل من الإسكندرية مركزًا تجاريًّا واقتصاديًّا، حتى إنه بين عامى 1863 و1873 كانت 94 فى المائة من صادرات مصر تخرج من الإسكندرية.

ولعل هنا يظهر مدى التغيُّر والانحدار الذى لحقها بعد سنوات ازدهارها، والتى كانت فيها عروس العالم.

فماذا حدث فى الإسكندرية، التى لم يُقدر لى أن أقضى فيها صيفًا منذ سنوات بعيدة، وهى التى ولدتنى وصارت لى أمًا أخرى.

إنه القبح والدمار الذى ضرب ويضرب كل مكان رأيته فى صيفٍ تعسٍ قضيته بها.

شوارع العطارين التى كانت ملأى بالبضائع الأوروبية: هانو وصيدناوى وعدس خاوية، ليس بها بضاعة، ولا دواوين ولا حتى موظفون.

والشوارع مخيفة صامتة ضربها الموت، بعدما امتلأت بأكوام القمامة، حتى بلغت شريط ترماى الرمل ذى الطابقين الذى كان مفخرة الماضى.

وتراكمت القمامة فى أرقى الأماكن «الحى الإيطالى والرومانى واليونانى، حيث توجد القنصليات، وصار الذباب يشاركنا المأكل والملبس».

أبكى على مبنى كلية الآداب بالشاطبى حيث تلقيتُ فيه محاضراتى فى علوم الفلسفة، المبنى التاريخى المُرصَّع بالحجر الأحمر بسقوفه المائلة على شاطئ البحر، وكذا مبنى كلية الهندسة الأثرى المُزدان بأزهار اللوتس، أبكى شواطئ جليمونوبولو وستانلى باى الرائعة المنظمة، والكازينوهات، وفيلات حى السراى العظيمة، التى صارت أطلالا، ومبانى كفر عبده الفخمة، التى انتهت إلى مبانٍ استثمارية، وحى بولكلى العريق، الذى كان مقرا للوزارة والحكومة كل صيف خلال الملكية، امتلأ بالحوانيت والباعة الجائلين، وحى زيزينيا بقصوره الشامخة، سدت الخرسانة نسائم البحر، وشارعى سعد زغلول، وصفية زغلول، «وألف رحمة» على جاتوهات ديليس وآتينيوس، وتمثال الخديو فى المنشية.

أين اختفى البوريفاج بحديقته وأشجاره، وسان استيفانو العريق الذى تحوَّل إلى مبنى فندقى يضم مئات الغرف، وسويس كوتج والأرميتاج، فأين ذهب مجد الإسكندرية؟

الزحام يخنق مدينتى الإسكندرية، ممتدًا حتى ساحل الأنفوشى وحلقة السَّمك والسكة الجديدة، أما شاطئ المعمورة الذى كان ذات يومٍ ساحر النسمات، تتمايل فيه أشجار النخيل، وتتناثر فى نعومةٍ وحلمٍ قليلٌ من الفيلات التى يقطنها بعضٌ من نجوم السينما والمال، صار الآن مُكدَّسًا بالأبنية العالية الأسمنتية، ثم امتلأ البحر بالجلابيب للعمال، وصغار موظفى الشركات الذين يستأجر لهم أولياؤهم مبيتهم، وبذا يكون قد دخل مجتمع جديد إلى المعمورة.

وأما حدائق قصر المنتزه فأصبحت مرتعًا غريبًا لنسوة مُنتقبات، وأطفال يجلسون على العشب يأكلون بالأيدى والأرجل، ونُصِبت– والله– مراجيح فى قصر الملكية.

فهل هى مؤامرة مُدبَّرة على الإسكندرية؟

أما الساحل الشمالى، الذى فاقت أسعاره شواطئ الريفيرا الفرنسية والإيطالية، فقد وصل حد الإيجار به سعرا خياليا، وتزداد هذه الأسعار بصورةٍ مذهلة فى القصور الحديثة، التى تسكنها الطبقة الأرستقراطية الجديدة فى مصر، وهم مليونيرات مراسى وهاسياندا، حيث أغلى وأحدث الملاهى والأندية الليلية.

إنه التناقض المثير فى المجتمع المصرى بين الفقر المدقع والغنى الفاحش.

«بورتو مارينا»، الزحام الشديد، وعمارات أسمنتية شاهقة ترى البحر، ويلاحق السماسرة مرتادى المكان بصورة مزعجة، يعرضون أسعارهم الخيالية لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، أو الإيجارات لمدد أطول. وكثير من الناس يدفعون ملايين الجنيهات دون تذمُّر، فأين هو الفقر؟ وكيف يصير هذا التناقض المخيف؟

ذهبت إلى فيلا صديقتى رجاء إدريس، زوجة الكاتب الصديق يوسف إدريس، على شاطئ مارينا، والتى كانت حجر النواة، وأول أرض امتلكها يوسف إدريس فى مارينا فور اكتشافه المكان، بإذن من الرئيس محمد حسنى مبارك، وكانت بمبلغ زهيد جدا، وأذكر أن رجاء أقامت دعوى ضد المهندس إبراهيم سليمان، وزير الإسكان الأسبق، الذى أراد الاستيلاء على قطعة أرض بجوارها، وكسبت الدعوى.

وهكذا فضَّلتُ فى أول صيف أقضيه فى الإسكندرية أن أهجر شواطئها بضجتها وضوضائها وسهراتها ومشكلاتها، وأقبع فى فيلتى بكينجى مريوط، حيث الهدوء والأشجار الحانية والياسمين، ومسك الليل، وضوء القمر، وكروان المساء، وكلاب الحراسة، وقبلها كتبى وأقلامى التى أعيش بها.

وكينجى مريوط ضاحية من ضواحى الإسكندرية الجميلة، عرفتها زمنًا وقت دراستى فى كلية الآداب قسم الفلسفة بجامعة الإسكندرية فى منطقة الشاطبى، وكانت فى ذلك الوقت أرقى منطقة يقطنها الإنجليز والفرنسيون واليهود فى فيلات أنيقة ذات سقوف حمراء مائلة، وممرات أسفلتية لامعة، تصطف بها الأشجار، وتغمرها رائحة زهور البرتقال، وأحضر فيها الحفلات التنكرية الراقصة، وغداء الباربيكيو.

طرد عبدالناصر أهلها، وتسلَّمها بدو وعرب برج العرب، وأصبحت الأرض «وضع يد»، يبيعها العرب بأغلى الأسعار، ويتحكمون فى المشترى، وتولَّتها شركة المقاولون العرب، ثم شركات من الباطن، فأصبحت الشوارع ترابية ملأى بالحفر والمجارى والبالوعات، وزحفت أيضا القمامة، وسكنتها الكلاب والقطط الضالة، وبيعت أراضى الخاصة الملكية بثمن بخس لأحد الخليجيين، فارتفعت الأسعار بصورة مذهلة، ولكن ظلت هناك مساحة انتقل إليها رجال الأعمال السكندريون هربًا من زحام الإسكندرية وشيَّدوا القصور الأنيقة، وظلت لى المكان الأفضل فى إسكندريتى.

ورغم الجمال لم يخل المكان من جهالة التخطيط، فشُيِّد بها مشروع ضخم لشركة الشرق الأوسط للبترول «ميدور»، والتى كانت ملكا لحسين سالم، والآن آلت إلى الدولة المصرية. وهى التى كانت تُصدِّر الغاز إلى إسرائيل، وعلى ذلك اختلط الهواء النقى بالغاز المسمم، وهذا من لوازم العكننة.

ومن الطريف أن الروائى البريطانى «فورستر» يُقدِّم كتابه عن الإسكندرية بما كتبه الرحالة العربى «ابن دقماق»: «إذا طاف الإنسان فى الإسكندرية فى الصباح فإن الله سيصنع له تاجًا من ذهب مُحلَّى باللآلئ، ويُعطِّره بالمسك والكافور، ويلمع من الشرق إلى الغرب»، كما أنه يكتب: «إن القليل من المدن قد دخلت التاريخ كما فعلت الإسكندرية».

هناك– إذن– سعادة رغم كل ما فى الزوايا من بؤس وحرمان بمصر المحروسة.

لم أجد هذا الذى أراه فى سواحل الريفيرا الهادئة العاقلة الحزينة أحيانا.