(1)
الأنبا موسى، أسقف الشباب فى الكنيسة القبطية (1938 ـ......)، أمد الله فى عمره، إحدى الشخصيات المصرية البارزة فى تاريخنا المعاصر. منذ اللحظة الأولى التى عرفته فيها، منتصف عام 1980، ارتبطت به ارتباطا وثيقا وإلى الآن. كان سبب الزيارة، أننى كنت بدأت بحثا عن «حركة مدارس الأحد من منظور سوسيولوجى»، وكنت أتطلع لإجراء حوار معه باعتباره أحد رموز الحركة. ذهبت إليه وأنا أحمل تفكيرا ولغة تعكس ثقافة مدنية بالتمام، فلم أكن مصنفا كنسيا. بيد أننى وجدت أمامى رجل دين مختلفا يجمع بين «القلب الكبييير، والعقل المستنييير» (لا يوجد خطأ حيث أنى أتعمد تكرار الياء لأصف طبيعة الأنبا موسى منذ عرفته إلى اليوم عن مدى اتساع هذا القلب وانفتاح هذا العقل)... «قلب كبير تفيض منه محبة بلا حساب. وعقل منفتح على كل الأفكار». أذكر كيف احتمل لغتى العقلانية الحادة، وتعليقاتى «البرية» غير المروضة بعد.. غير متضايق ـ بالمرة ـ من هذا الوافد إليه من خلفية مغايرة.. فى هذا السياق، أذكر ثلاث ملاحظات كما يلى: الأولى: كيف أنه قبل التحدث عن موضوع البحث حيث ذكر جهود الكثيرين وأتعابهم فى حركة مدارس الأحد وتجنب الحديث عن نفسه تماما. الثانية: براعته فى كيفية استخلاص أفضل ما فى الشخصيات التى تحدث عنها مميزا بين التعلم من الجميع وبين التبعية لأحد. الثالثة: هو أنه قبلنى كما أنا بحدتى و«بريتى» وبات ينادينى «يا خواجة»، منذ اليوم الأول، ولم يتوقف عنها إلا عندما أدرك أننى نضجت وبت أستطيع أن أتفهم السياق الذى نعيش فيه...
(2)
آمن بأن التغييرـ وخاصة الإنسانى ـ لا يأتى قسرا، ولا بالهيمنة على التابعين، ولا بالتنميط، وبخاصة مع الشباب. وإنما التغيير يأتى «بالحب»، وبتقديم النموذج العملى لكل ما ينادى به من قيم ومبادئ. عامل كل شاب، ولم يزل، بأنه قيمة فى ذاته. وأن هذه القيمة هى موهبة منحها الله لهذا الشاب عليه ـ من واقع المسؤولية ـ أن يكتشفها ويصقلها، وأن يمنحها الفرصة للظهور.. لا يهمه من أى خلفية أو وسط أو طبقة يأتى إليه الشباب.. وإنما ما يهمه هو كيف يكتشف إمكانية الشباب ويمنحهم مساحات التحقق اللازمة.. مدركا بدقة شديدة قدرة المجتمع ـ المحدودة والبطيئة ـ على تقبل التغيير.. من هنا كانت تتجلى مهمته الثانية فى كيفية ضبط إيقاع الشباب دون «تضييق» منجهة. ومراعاة طاقة المجتمع على قبول الجديد «واحدة واحدة» من جهة أخرى.. فى هذا السياق دعانى كما كان يدعو أى أحد للتعاون معه فى أكثر من مجال دون النظر لأى خلفيات.. ويقوم بتقديمهم ويتوارى فى تواضع حقيقى.. قائلا قولته الشهيرة: «انتوا اللى بتعملوا كل حاجة.. هو أنا بعمل حاجة: أكل ومرعة وقلة صنعة»...
(3)
تولى مهامه كأسقف للشباب فى العام 1980، فى ظرف تاريخى غاية فى التعقيد يتميز: بالاستقطاب المجتمعى الحاد، والتوترات الدينية المتكررة، وعنف سياسى. وكانت ذروته القبض على كل ألوان الطيف المصرى فيما عرف باعتقالات سبتمبر 1981. فى هذا الوقت تجلت براعته فى حماية الكنيسة والوطن من تداعيات اللحظة التاريخية السوداء على السواء.. كان لا يهمه أن يظهر فى الصورة لأن الصالح/ الخير العام هو ما يحركه تجاه: الوطن/ الكنيسة.. وما إن استقامت الأوضاع بعض الشىء وجدناه كيف أدار حركة الشباب القبطى باقتدار كبير على أسس حداثية تقوم على مايلى: أولا: الحركة فى إطار مؤسسى: أدرك أنه يعمل فى ظل كيان دينى عريق له قواعده وتراتبيته. إلا أنه من جانب آخر كان مدركا أن الشباب يحتاج إلى مساحة من حرية الحركة. فزاوج بين المؤسسية والحركية فى تعاطيه مع الشباب وهو أمر معقد للغاية لمن يدرك الفروقات بين الأمرين. ثانيا: القيادة بالشراكة: فلم يستأثر يوما بالرأى، أو فرض أمرا على من حوله. ثالثا: صمم مؤسسية حداثية تمزج بين الهرمية والشبكية. رابعا: فتح المجال أمام مجالات جديدة فى الرعاية لم تكن مطروقة من قبل مستفيدا من التطور العلمى والفكرى فى كل المجالات منذ منتصف الثمانينيات: علم النفس والمشورة، الثقافة الجنسية، ربط اللاهوت بالواقع الاجتماعى، التنمية الثقافية والوطنية، تقديم تفسيرات دينية ذات طابع إنسانى،.. كان همه هو تكوين شاب: مصرى/ مسيحى، مسيحي/مصرى: قادر على التفكير، والخدمة الممتدة للجميع، والمشاركة الفاعلة على كل المستويات...لذا تبنى «المواطنة» كقيمة وممارسة.. وفى هذا المقام لابد أن نشير إلى أنه كيف تحمل مناوشات أعداء النجاح وقد كنت شاهدا على الكثير والكثير...
(4)
فى هذا المقام، قبل أن يتيح لى ومعى مجموعة من الشباب فى منتصف الثمانينيات أن نطلق حوارات غير مسبوقة مع كل التيارات السياسية والفكرية. حيث آمن بأن الحوار وبناء الجسور هو وحده ما يقيم الأوطان من عثراتها...كما أتاح لغيرى أن يقدم ما لديه فيما هو متخصص فيه...مع حرص شديد أن نتشارك فى دراسة كل ما يستجد فى واقع الشباب ونقيم حوله النقاشات ونضع وفقها التوصيات المناسبة...لذا كان سباقا فى تأييد 25 يناير وأذكر مقالاته الثلاثة فى هذا المقام والتى نشرت إحداها فى «المصرى اليوم».. وأخرى أرسلت إلى الأهرام فى 24 ساعة فى ظرف معقد...
(5)
هذا هو الأنبا موسى الذى تمرد عليه قلبه قليلا.. ولكنه لا يبالى، حيث فى ظل التوعك يحرص، نيافته، أن يسأل على كل من يعرفهم ليطمئن عليهم بضحكته الصافية وروحه الملائكية.. أنبا موسى: شكرا لله على سلامتك.. فأنت أحد بناة الوطن وحراسه الأمناء.. ونواصل...