«تدوير النفايات» ألم صار نغماً!

طارق الشناوي الإثنين 07-12-2015 21:21

عندما يصبح المأزق هو الحل، والعقاب هو الثواب، وتتبدل الذنوب إلى حسنات، والنقمة تصير نعمة، كل هذه المتناقضات صعدت أمامى فى لحظة واحدة عندما شاهدت الفيلم الإسبانى «أوركسترا النفايات»، أنت تتعامل هنا مع خطر داهم يهدد مجتمعا بكل الأمراض المعروفة أو التى لم يتم توصيفها بعد، إلا أن هناك دائما جانب مضىء مهما زادت مساحات الظلام.

أعلم أنكم تقولون النفايات لا يمكن سوى أن نعمل على التخلص منها وحرقها، وهو مثلا ما أثار قبل أشهر قلائل المجتمع اللبنانى للتظاهر ضد الدولة التى لم تستطع أن تضع حلا لكارثة النفايات المنتشرة فى الشوارع، إلا أنك من الممكن أحيانا أن تكتشف أن هناك وجها آخر للمأساة لو تأملناه لوجدناه ربما يمنحنا بُعدا آخر.

الفيلم تسجيلى طويل يتناول واقعة حقيقية، لا أتصور أن الأمر كان يسمح بأى إضافة من الخيال، كانت بالتأكيد ستجرح الحقيقة، الفيلم ينتقل إلى بلدة فقيرة تُدعى «كاتيورا» تتلقى كل البقايا التى تلقى بها المدينة، لتهدد تلك البلدة بكل الأمراض والأوبئة، إلا أنهم بإرادة ورغبة وموهبة استطاعوا أن يحيلوا حتى البقايا إلى مورد رزق، البلدة تعيش على حافة الفقر ومصدر دخلهم الوحيد يعثرون عليه فيما يمكن بيعه أو تدويره مجددا ليصبح سلاحهم فى مواجهة قسوة الحياة، أستاذ للموسيقى يأتى لتعليم البلدة هذا الفن الرفيع فى وقت تبلغ فيه ثمن الكمان أو «الفيولينا» نفس ثمن البيت، الذى يقطنون فيه، كيف لمن يعيش الفقر بكل مفرداته وتنويعاته أن يفكر ليس فى تعلم الموسيقى ولكن مجرد الاستماع إليها، هل لأن رغبة الحياة هى فى التحدى، أم لأن الموسيقى هى رحيق الحياة، كانوا كمن يبحث فى النفايات عن سر الحياة، أراها كذلك الموسيقى هى المعادل الموضوعى للنفس النقية، ولهذا قال وليم شكسبير عبارته الخالدة فى «يوليوس قيصر» فى وصف الشرير «احذر منه إنه لا يحب الموسيقى».

الفيلم إخراج كل من براد أولفيد الذى تولى أيضا المونتاج وجراهام تاونسلى، الفرقة التى استخدمت فى صناعة الآلات الموسيقية ما يلقيه الأهالى من كراكيب، كان وراءها عمال مهرة، يدركون أن المادة المصنوعة منها الآلة تلعب دورا محوريا فى ضبط «تون» النغمة ولهذا شكلوا جزءا محوريا فى بناء الفيلم التسجيلى، فهم أبطال حتى لو غابت صورهم عن الحدث الموسيقى، الإعجاز الإبداعى لم يكن فقط للفرقة على المسرح التى صارت هدفا للعديد من المهرجانات الموسيقية حققت شهرة عالمية بهذا التحدى للظروف المفروضة عليها فأصبحت هى حديث العالم، وكان الرصد هذه المرة توثيقيا، والفيلم يحرص على أن تصل الرسالة للجميع، فيلم «أوركسترا النفايات» يقدم ما هو أعمق من رحلة صعود الفرقة وتحقيقها للشهرة فى أنحاء العالم، حيث تتسع الرؤية لتصل إلى كفاح بلدة وتحديها حتى لو لم يكن هناك محتل يفرض شروطه عليها مثل إسرائيل، مثلا فى فيلم الافتتاح «يا طير الطاير»، فإن إحساس الدونية الذى يمارس ضد أهالى تلك البلدة أراه أشد وطأة، لأنه يصدر إليهم من مواطنيهم، هذا الفيلم شارك رسميا فى عروض المهرجان فى قسم «هلال» وحصل على تكريم، ملحوظة المهرجان لديه ثلاث مسابقات رئيسية من خلال ثلاث لجان تحكيم تعبر عن المراحل العمرية الأولى «محاق» وهو ولادة القمر وأعضاؤها تتراوح أعمارهم بين 8 و 12 عاما، ثم «هلال» وأعضاؤها من 13 إلى 17 عاما، و«بدر» من 18 إلى 21 عاما، وبالطبع يصبح الحديث عن فكرة لجنة تحكيم من الأطفال حتى المراهقة وبواكير الشباب تعنى تحقيق قدر من الخصوصية للمهرجان، ولكن فى الوقت نفسه هل تضمن فى نهاية المطاف منح الجوائز لمن يستحق، وهو فى النهاية تساؤل ينطبق على كل المهرجانات العالمية والمحلية، من النادر أن تتفق أراء الجميع على الأفلام الفائزة، ولكن يبقى أن المهرجان يمنح شيئا من الخصوصية للجنة التحكيم.

فى كل الأحوال تظل تلك قضية أخرى، ولكن دعونا نتابع حالة التوثيق التى صاحبت هذه الفرقة، المخرجان يقدمان دائما تلك البدايات من العثور على مواد خشبية أو معدنية، ثم مباشرة وتحت يد صنايعى ماهر يبدأ تشكيلها، المعروف أن الآلات الموسيقية تختلف أسعارها تبعا للمادة الخام، كما أن طبيعة النغم لها علاقة بنسبة ما بالمادة التى تصنع منها، وهى علاقة بقدر ما هى تدخل فى تقنية الصناعة فإنها تلعب دورا محوريا فى تصدير الأنغام وصفائها، ولهذا كانت تستحق التوثيق، ويظل أروع ما فى هذا الفيلم هو أن قيمة التحدى ظلت كامنة فلم نستمع إلى كلمات حماسية تُعلى من موقف الفرقة وما أنجزته بقدر ما ظل الهمس مسيطرا على الشاشة، وتبقى التجربة ومدلولها فى إحالة الألم إلى نغم.

tarekelshinnawi@yahoo.com