من يكتب؟

أيمن الجندي الأحد 06-12-2015 21:47

الكون علبة مقفلة. تماما كما صدره بالضبط. يشعر بأنه لو مدّ يده إلى آخر اتساعها لارتطمت بجدار. القلب ناضب تماما. لا شىء إلا الوحشة والسقم. فهل ما يعانيه ، اكتئاب أم ما يُسمونه «قفلة الكاتب»؟ روحه صارت معتمة تماما، فأين ذهبت النجوم التى كانت تُطرز سماءه؟ أين الهواء الذى كان يهب ما بين عينه وقلبه؟ أين التوق والعشق والوهج والمحبة؟ أين انسياب القلم بين أنامله؟ أين الإلهام السيّال الذى لا يكاد يتوقف؟

كان هو أول من شعر بالجدب فى قلمه. لم ينتظر أن يشعر أحد بهذا. اعتذر عن الكتابة لظروف شخصية آملا أن يمنحه التوقف تجددا. ولكن سرعان ما خاب أمله. فليصارح نفسه بالحقيقة. هو انتهى. لقد أفرغ ما فى قلبه وروحه ولم يعد هناك جديد يكتبه. كان هذا بمثابة حكم بالإعدام عليه. لم يكُن يتصور الحياة إلا هكذا: يكتب ويكتب..

الترحال فى الأرض لم يُجدِ نفعا! حتى النساء لم يعدن يحركن وترا فى روحه! صمت عظيم ووحشة! كالخلاء الذى هيمن على الأرض قبل أن تدب الحياة. لم يكن هناك سوى صفير الريح ونقر المطر! ولأنه لم يكن هناك مخلوق حى ليسمع هذه الأشياء ويترجمها إلى كلمات، فقد كانت موجودة كأنها غير موجودة. يتساوى العدم والحياة فى الوحشة الكبرى. ترى متى بدأ الإنسان التدوين ولماذا؟ ما الذى جعل إنسان الكهف يمسك بحجر مسنون ويظل واقفا بالساعات يرسم ويرسم؟ أتراه كان شيئا مُلحّا دفعه للتدوين ثم فرغ منه؟ ماذا بعد أن انتهى؟ لماذا يشعر أن المداد فرغ من كل أقلام العالم؟

نهض من فراشه نامى اللحية مبعثر الهندام، فراشه مُجعّد من فرط ما تقلب عليه. أدار الكمبيوتر وفتح صفحة للكتابة! ثم أغمض عينيه محاولا أن يمسك بخيط. فتح عينيه فلم يصدق ما يراه ويحدث أمامه.

صفحة الكمبيوتر البيضاء لم تعد بيضاء. الكلمات تُدوّن فى ثقة ورصانة. كلمات لم تخطها أنامله. راح ينظر إلى لوحة المفاتيح وهى تتحرك. وكأن يدًا خفية تضغط على الأزرار دون أن يراها.

تكتب! ماذا تكتب؟ لا يهم ما تكتب! المهم أنها تكتب. الكلمات تنهال فى سرعة جنونية. تبدو وكأنها قطرات ماء تنزلق! حروف لم يشاهد مثلها فى حياته! تتجمع الحروف لتصنع كلمات. تحتشد الكلمات لتصنع جملا. تشرق الجمل فتصبح معانى. هو! قصة حياته هنا! كل ما يتعلق به منذ ميلاده إلى موته مكتوب هنا! ليس هو فقط. كل شىء ينسال أمام عينيه. أبوه! أخوه! أمه! العالم كله. الحيوانات والحشرات والأسماك والبحور. الأرض والقمر والكواكب والشمس. النجوم! النجوم البعيدة البعيدة. النجوم التى لا يعرف أحد بوجودها! هناك فى أطراف المجرة. المجرة! المجرات البعيدة البعيدة! التى لم يشاهدها أحد. ولم يدرِ بوجودها أحد. كل ذلك مكتوب أمامه. بلغة كونية يفهمها بالسليقة. الأسرار! كل الأسرار! كل قوانين المادة! كل شحنات الطاقة! العالم المتعدد الأبعاد. الماضى والحاضر والمستقبل. كله مكتوب أمامه. ينسال على الشاشة أمامه. المعادلة الكونية الكبرى التى يكمن فى تفاصيلها كل ما كان وسيكون منذ بدء الزمن حتى انتهائه.

اقشعر بدنه كله. سجد. اقترب. أدرك أنه لم يكتب من قبل حرفا. الآن يفهم أنه قلم تحركه إرادة أعلى منه. الآن يعرف من الكاتب!.

elguindy62@hotmail.com