سخافة التاريخ

وجيه وهبة السبت 05-12-2015 21:26

«إننا لسنا فى حاجة إلى إعادة قراءة تاريخنا الإسلامى، بل فى حاجة إلى إعادة كتابته». هكذا أنهى الكاتب الأستاذ «أحمد بهاء الدين» العمود الأشهر بجريدة الأهرام، بعدما استعرض تاريخا طويلا من القتل والذبح والدماء. وطبعا لم يَسْلَم الأستاذ «بهاء»ـ فى ذلك الوقت منذ ما يقرب من ثلاثة عقود- لم يَسْلَم من ألسنة المتربصين. نعم فقد خلطوا بين المقدس، وبين كتب كتبها بشر، كل بحسب قدراته، أو أهوائه، أو مذهبه الفقهى، أو حتى انتمائه القبلى.. عُرف الأستاذ بهاء بالألمعية والرزانة واستقلالية الرأى إلى حد بعيد، ولم يُعرف عنه التهور والمجازفة، ولكن يبدو أن «الكيل فاض به»، وربما لو أمد الله فى عمر صاحب «أيام لها تاريخ» لنادى بإعادة كتابة التاريخ، ليس فقط تاريخنا الإسلامى، بل كل تاريخنا بجميع جوانبه، تاريخنا السياسى، والثقافى، والفنى، والأدبى... إلخ. نعم.. تاريخنا يحتاج إلى عملية تدقيق وتمحيص وإعادة كتابة، فى كل مجالاته، يحتاج إلى «أنسنة» شخوص مَن صنعوه ومَن صنعهم، يجب أن نعرف الناس على حقيقتهم، كبشر، تخطئ وتصيب، وأن «أسطرة» شخوص تاريخنا، وتحويلهم إلى ملائكة أو شياطين.. مناضلين أو خونة.. عباقرة أو بلهاء، هذه الطريقة الحدية فى التصنيف، لا تُسمن ولا تُغنى من جوع حضارى. نريد تاريخنا بشحمه ولحمه، لا تاريخاً «مشفى»، حسب الأهواء. نعلم أن كتابة التاريخ- بلا انحيازات وأهواءـ مسألة صعبة على النفس، ومن النادر أن تقرأ لمَن يُعدون مؤرخى النصف الثانى من القرن العشرين حتى اليوم، مَن يمكن أن تعتبره مؤرخا موضوعيا، أو حتى ذا انحياز جزئى مقبول، مثل «الرافعى»، فالأهواء تشوه التاريخ وتلونه، إما باقتطاع من سياق، أو بالتجاهل التام، أو بالتعسف فى التبرير، وغير ذلك من أساليب. ليس من العيب، بل من واجب الأمانة التاريخية أن نقول للناس- على سبيل المثال- إن سعد زغلول العظيم كانت له مواقف ملتبسةـ إذا ترأفنا فى الوصف- قبل «ثورة 19»، وأن نكشف لهم مواقفه فى العشرينيات- المخزية من وجهة نظرى- من «على عبدالرازق» وقضية كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، ومن «طه حسين» فى قضية كتاب «الشعر الجاهلى». من الأمانة التاريخية أن نوضح للناس أن «طلعت حرب» الذى كان مع «تحرير الاقتصاد» لم يكن مع «تحرر العقل»، فقد كان موقفه من «قاسم أمين» و«تحرير المرأة» شديد التخلف والرجعية.

العقاد ومَن علمه الكرامة!

فى يوم 26 أكتوبر عام 1954، جرت محاولة لاغتيال «الرئيس جمال عبدالناصر»ـ لم يكن بعد قد تحول إلى «الزعيم ناصر»ـ وذلك أثناء إلقائه خطاباً فى ميدان المنشية بالإسكندرية، طاشت الرصاصات الثمانى التى أطلقها الإخوانى «محمود عبداللطيف»، ونجا الرئيس. حدث بالطبع هرج ومرج، ووقف «جمال عبدالناصر» يواصل خطابه، مناشداً الجماهير: «فليَبْقَ كلٌّ فى مكانه.. أيها الرجال فليَبْقَ كلٌّ فى مكانه».. ردد تلك الجملة فى «هيستيريا»ـ مفهومة فى هذا السياق- تسع مرات، ثم واصل صارخا: «حياتى فداؤكم»... إلخ من جمل شبيهة مرتجلة، إلى أن وصل إلى مقطع: «سيبونى.. أيها الرجال.. فليقتلونى.. فليقتلونى.. فقد وضعت فيكم العِزَّة.. فليقتلونى، فقد وضعت فيكم الكرامة، فليقتلونى.. فقد أنْبَتُّ فى هذا الوطن الحرية».. كله بضمير المتكلم «وضعتُ»، «أنْبَتُّ».. ونسى حتى زملاءه من الضباط الأحرار، الذين وضعواـ مثله- أرواحهم على أكفهم، ليلة الثالث والعشرين من يوليو.. ووضعوا معه «العِزَّة» و«الكرامة».. الحديدية فى أيدى المئات من خيرة النخب المصرية فى مختلف سجون مصر.

بعد ذلك الخطاب «التاريخى» تردد أن الأستاذ «عباس العقاد»، 65 عاما فى ذلك الوقت، غضب غضبا شديدا، متأسيا من «ذلك اليوم الذى أتى فيه شاب عمره 36 عاما ليقول للمصريين، بعد كفاحهم الطويل عبر الأجيال، لقد «وضعت فيكم العزة والكرامة، وأنبَتُّ فيكم الحرية».

كان «العقاد»ـ قبل خطاب «عبدالناصر» هذا بربع القرن- قد سُجن تسعة أشهر بتهمة «العيب فى الذات الملكية»، وبسبب دفاعه المستمر عن «كرامة وعزة» المصريين ودستورهم. خرج العقاد من سجنه. ولم يَدَّعِ أنه قد علَّم أحداـ فضلا عن شعب- «العزة والكرامة».

عشرات المصريين سُجنوا ونُفوا وماتوا، على مدار تاريخ مصر الحديث، من أجل «الكرامة والعزة والحرية»، ليس أولهم «سعد زغلول» ولا آخرهم «العقاد».. لذا كان للعقاد أن يغضب من «ناصر 54».. المعلم الأول للمصريين، مَن علَّمهم العزة والكرامة!!!

ملحوظة: 1ـ جرت الواقعة السابق ذكرها فى زمن لم يكن الشعب فيه قد أصبح.. «الشعب هو المعلم».. فقد كان مازال فى مرحلة التلمذة.. مرحلة وضع «العزة والكرامة» فيه.

مطلوب إعادة كتابةـ والعياذ بالله- التاريخ.. على الأقل تاريخ «العزة والكرامة».

همهمة

1- هل تتحول نقابة الموسيقيين إلى «جماعة الأمر بالحجاز والنهى عن (العجم)» تحت رئاسة «مطوع الغناء العربى» أو «أمير الغناء الشرعى»؟

٢ـ عودة «الإ..هلامية» السادية، المعروفة ببث برامج «شمهورش»، لها معنى سيئ، وهو أنه إذا كانت المذيعة تتفرد بمحدودية الذكاء، فإن مَن وراءها هم أناس منعدمو المهنية والوعى والضمير. متى ينتهى استعراض القوة الغاشمة لمال الإعلام الجهول؟!