فى إحدى الجلسات النقاشية بمدينة الإسكندرية، وفيما يشبه منتدى فى ضيافة أحد المهندسين الغارقين فى بحور الكتب، سمعت هذا التعبير كثيراً (دفعة 75 هندسة)، من باب الفضول تساءلت: ما الموضوع؟ كانت الإجابة مفعمة بالزهو والفخر والاعتزاز، من نحو عشرة أشخاص، نحن الدفعة الأكثر تواصلاً، الأكثر انتشاراً، الأكثر تنويراً، الأكثر إبداعاً، من بيننا كان رؤساء جامعات داخل مصر وخارجها، وعمداء كليات أيضاً بالداخل والخارج، وزراء، رؤساء حكومات، علماء، أنشأنا جمعية خاصة باسم الدفعة بمنأى عن نقابة المهندسين، من بيننا فلان وفلان وفلان، الأسماء بالفعل كثيرة جداً، لا داعى للتكرار حتى لا ننسى أحداً.
تساءلت عن السبب فى ذلك، وكيف كان ذلك، انبرى أحدهم قائلاً: نحن آخر جيل لحِقَ بالتعليم المثالى، أو النموذجى، من حيث تعلم اللغة العربية كما يجب، الدين أيضاً، التربية القومية، الألعاب الرياضية المختلفة، الأنشطة الفنية والثقافية، بالتأكيد كان الأساتذة على نفس مستوى المرحلة، الإدارة كذلك، التربية الأُسرية، العملية كاملة متكاملة، هكذا سمعت منهم، دارت أحاديث كثيرة حول مختلف القضايا الراهنة، هناك اتفاق على أن التعليم هو أصل الأشياء، كما أن هناك شبه اتفاق على أننا نعيش الآن أزمة كبيرة، الخلاف كان حول أسلوب وفترة العلاج.
الحديث كان شيقاً ومؤلماً فى الوقت نفسه، عن الفساد والفوضى، وكيفية المواجهة، أحدهم يرى أن المواجهة لا تحتاج أكثر من شهرين، ومن خلال تطبيق القانون كما يجب ليس أكثر، آخرون اعترضوا بشدة، الفساد والفوضى يحتاجان إلى سنوات وسنوات، الرأى الأول يرى أن الخوف يُشكل أقصر الطرق للوصول إلى الهدف، وهو احترام القانون، والرأى الآخر استند إلى أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- استغرق فى نشر الأخلاق نحو ثلاثة عشر عاماً، حيث كان ذلك هو الهدف الرئيسى للدعوة (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
ما يجرى فى سوريا، والمنطقة بصفة عامة، استحوذ على الكثير من النقاش، التوقعات لـ25 يناير المقبل نفس الشىء، استمرار الرئيس من عدمه، شكل البرلمان القادم، اتفاق عام حول سوء العملية التعليمية، الفوضى المرورية، سوء الأخلاق، استحواذ العسكريين السابقين على الوظائف المدنية المهمة، العلاقات مع العرب، العلاقات مع العالم الخارجى عموماً، مستقبل مصر بين دول المنطقة، إلى أى مدى يمكن أن ننجرف إلى مواجهات هنا، أو صراعات هناك.
نحن هنا أمام رأى عام مصرى طبيعى، أضف إلى ذلك أننا أمام متعلمين كما يجب أن يكون التعليم، مثقفون فى المجالات المختلفة، مهمومون بوطنهم إلى أبعد حد، السؤال هو: أى جهة رسمية استمعت إلى هؤلاء يوماً ما، أى سلطة رسمية حاولت الاستفادة منهم خارج نطاق العمل الذى يبدأ فى الثامنة صباحاً وينتهى فى الثانية ظهراً؟ حتى ما يتعلق بالإعلام لم يستفد منهم، الفضائيات تفرض علينا نفس الوجوه الكريهة التى تمُر، أكرر: تمر، على الفضائيات طوال الليل، وبصفة يومية، تحت اسم خبراء، أو استراتيجيين، أو ما شابه ذلك، وهم فى معظمهم غير ملمين بالكتابة والقراءة كما يجب.
أتصور بعد مناقشات امتدت لساعات طويلة، مع، وبين دفعة 1975 هندسة الإسكندرية تحديداً، أنه يجب أن نرفع القبعة لأساتذة زمان، وطلاب زمان، ومناهج زمان، وطرب زمان، وأفلام زمان، ومسرحيات زمان، وآباء وأمهات زمان، لنترحم إذن على الجميع، وسوف أنحاز للرأى القائل إن الأزمة أصبحت مستعصية مع أجيال كمنّنة، والبانجو، والترامادول، وبحبك يا حمار، وبرلمان مجيدة، ورُز الخليج، وجهاز الكفتة، وحالة الفنكوش بشكل عام.
بالفعل، الأوضاع بشكلها الحالى تحتاج إلى سنوات وسنوات، وفى النهاية قد نحقق بعض الشىء، وقد لا نستطيع، لكن على الأقل يجب أن نستمع إلى الناس الطبيعيين، نبحث عن أبناء مصر الحقيقيين، المواطن النقى وليس المتجمل، هنا سوف نرى الوطنية بالفطرة، وليست بالدولار، ولا حتى بالشاى بالياسمين.