محمد أشرف البيومى
طالعتنا صحف 20 نوفمبر الماضى، معلنة نبأ التوقيع على اتفاقية مع روسيا لبناء محطة الضبعة. جاء العنوان فى «الأهرام»: «مصر تدخل العصر النووى»، و«الرئيس: الاتفاق رسالة أمل وعمل وسلام لبلادنا والعالم»، وفى «المصرى اليوم»: «النووى يهزم كابوس الطائرة»، وفى «الوطن»: «الضبعة تصلح ما أفسدته الطائرة»، وفى «الدستور»: «أسرع عقد فى تاريخ المفاعلات..»، وفى «المصرى اليوم»، 21 نوفمبر: «دقت ساعة العمل النووى: المصانع المصرية تنفذ 20% من مكونات المفاعل». وغلب على العناوين الطابع الدعائى وتصعيد الآمال ومحاولات ربط توقيع العقد النووى بحادث الطائرة الروسية.
فى ظل هذا المناخ الدعائى، يصعب تناول الأمر موضوعيا، ويصبح عرض أو نشر رأى مخالف أمرا عسيرا يضع صاحبه وكأنه يخرب الفرحة ويخيب الآمال بما سُمى «الحلم النووى». تزداد هذه الصعوبة فى ظل الدعاية والكتابات التى تمجد المشروع وتجعله رمز التقدم ودليله، والتى تدغدغ مشاعر المصريين التى تتوق إلى نهضة كبيرة وإلى تصدر مصر إلى الموقع المرموق الذى تستحقه بين الدول، بالإضافة إلى الخلط بين المشروع المصرى الذى يشمل شراء مفاعلات جاهزة والمساهمة فى تشغيلها وبرنامج إيران النووى، الذى مَكَّنها من تكنولوجيا إثراء اليورانيوم وإنتاج الوقود النووى واستخدام المعرفة النووية فى المجالات السلمية. إن ما يُخيف الدول الغربية حقا هو تقدم الدول النامية علميا وتكنولوجيا، وعلينا أن ندرك العقبات الجمة التى وضعتها الإدارة الأمريكية أمام التقدم العلمى فى مجالات الهندسة الوراثية والطب فى كوبا، ذات الإحدى عشر مليون مواطن. كما أن الإيحاء الإعلامى بأن المشروع المصرى له علاقة بإنتاج قنبلة ذرية هو نوع من الخداع الفج.
ولكن إذا افترضنا أن هناك قدرا من المسؤولية الوطنية يحمله كاتب أو أستاذ جامعى مخضرم، 81 عاماً، وباحث علمى ملم بالجوانب المختلفة للمشروع، مثل كاتب هذا المقال، والذى له قناعة راسخة بأهمية البحث العلمى والتكنولوجيا المتقدمة، بما فيها التكنولوجيا النووية، يصبح لزاما عليه أن يتحدث ويكتب حول الجوانب السلبية للمشروع. علىَّ أيضاً أن أصر على التقييم الموضوعى والحوار المعلن، هذا بالرغم من غوغائية البعض فى تناول مَن يعارض أو يبرز مخاطر المشروع واتهامهم، كما جاء فى الصحف سابقا، بـ«البحث عن القطط الفاطسة» أو «النضال بالمخالفة» أو «الانحراف والتشكيك فى مصر والتخريب»، ومؤخرا «الخيانة». وهذا يمثل نموذجا صارخا للإرهاب الفكرى وإجهاض الرأى الآخر، الذى يمكن أن يكون الرأى الصحيح والأصوب، وفى هذه الحالة نندم، حيث لا ينفع الندم، ويتنصل الجميع من المسؤولية.
لن يُثنينى كل هذا، وخبر التوقيع على الاتفاق، عن الحديث عن السلبيات والتحذير من المخاطر المتعددة للمفاعلات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، فهناك مجالات علمية وتكنولوجية عديدة للتعاون بين مصر وروسيا غير شراء المفاعلات.
تنويه ضرورى: هنالك مشكلة أخرى، فإن مصادر إخوانية تتحدث فى قنواتها عن سلبيات البديل النووى كما علمت مؤخرا. لم أَطَّلع على هذه المصادر، ورغم أن بعضها صحيح، فإن هذا يقع فى بند «حق يُراد به باطل»، فهدف الإخوان معروف، وهو يتناقض تماما مع قناعاتى. المهم ضرورة التقييم الموضوعى لشتى الأمور سواء أدى ذلك إلى التأييد أو الاختلاف مع صانعى القرار.. وفى هذا الصدد، أتساءل: هل عارض الإخوان مشروع إنشاء محطات نووية فى عصر السادات ومبارك؟
بين التقييم العلمى والبروباجندا غير المسؤولة
يبدأ التقييم العلمى لأى قضية مهمة أو أى مشروع ضخم بالتساؤل: ما الإيجابيات والسلبيات؟ وما إذا كانت هناك مخاطر هائلة وحوادث غير عادية، من حيث أعداد الضحايا والمدى الزمنى للتأثير الضار الناجم عن الحادث، حتى وإن كان نادر الحدوث. لا شك أننا بصدد قرار له تبعات عديدة، ولفترة طويلة، يتحملها أصحاب القرار.
وفى المقابل، فإن الطريق للوصول لقرار يحتمل الخطأ بدرجة كبيرة هو عدم الاكتراث بالرأى المخالف، خصوصا إذا كان الرأى المعارض يؤكد على خبرات مستقاة من التجربة العملية فى دول أخرى، وفى مدى زمنى طويل. أما ما نشاهده حاليا من تصفيق ومغالاة وتأييد مطلق فذلك يعبر عن عدم مسؤولية.
وفى الحقيقة أن التناول الإعلامى للموضوع حاليا لا يختلف كثيرا عنه عبر العقود الأربعة الماضية. اتسم الإعلام بنفس المنهج الدعائى، الذى لا يلتزم بالحقائق، بل بالإثارة، وكأننا بصدد الدعاية لمنتج تافه، فما نقرؤه فى الإعلام الرسمى والخاص هو الرأى المؤيد دون أى رأى مخالف، إلا فيما ندر. لا شك أن هذا الأسلوب يساعد ويمهد للوصول لقرار خاطئ فى الغالب.
وعلى سبيل المثال ما جاء فى «الأهرام»، فى 15 نوفمبر الماضى، بعنوان ضخم يتناسب معه: «مارد الضبعة النووى ينطلق»، وكأنه إعلان عن فيلم مثير. وفى الماضى، أتذكر مقولة صحفى مخضرم، فى مقال منشور، إن «الأمان النووى يفوق المائة فى المائة»! بل كان عنوان كتيب وزارة الكهرباء الصادر دون تاريخ! منذ حوالى 35 عاماً: «حتمية البرنامج النووى المصرى»، والمدهش أن «اليوم السابع» تنشر الآن نفس العنوان القديم: «مصر تدخل العصر النووى» الذى دخلناه عدة مرات من قبل! فمثلاً بـ«الأهرام» منذ حوالى 35 عاماً: «مصر دخلت عصر الطاقة النووية فى الساعة 11:18 دقيقة صباح الإثنين 29 يونيو1981»، و«نظم الأمان النووى تصل باحتمالات الخطر إلى درجة الاستحالة المطلقة»، و«لا يمكن تسرب الإشعاع حتى فى حالة وقوع حادث»! كيف نصف كل هذا بغير أنه يعبر عن تدنى المسؤولية بشكل خطير؟!
تساؤلات مشروعة وضرورية
لقد كتبت وحاضرت حول موضوع المفاعلات النووية على مرور أربعة عقود. وهنا سأعيد طرح تساؤلات مماثلة من الضرورى الإجابة عنها والحوار حولها، مستندين إلى المعرفة الغزيرة المتاحة، وليس انطباعات لا تستند إلى معرفة شاملة ومتكاملة. كذلك هناك اختلاف مهم بين العرضين الأمريكى والروسى، فالعرض الأمريكى يشترط على مصر التوقيع على بروتوكول يعطيها الحق فى التفتيش على منشآتنا الصناعية، ولا أظن أن العقد الروسى يُلزم مصر بمثل هذا الشرط. فى كل الأحوال نحن نرفض بشدة أى مساس بسيادتنا الوطنية لأى سبب. ومن المدهش أن كثيرين ممن استحوذ عليهم إنشاء محطات نووية أيدوا المشروع السابق، رغم هذا الشرط الخطير والمرفوض قطعيا.
أطرح التساؤلات التالية للحوار الجاد:
1- ما وضع صناعة المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء؟ هل هى فى أزمة وانحسار، ولماذا؟ ما مستقبل الطاقة الكهربائية المنتَجة نوويا والمنتَجة من مصادر أخرى مثل الغاز الطبيعى والطاقة الشمسية؟ لماذا تُعارض عدة شعوب البديل النووى فى بلاد متقدمة صناعيا ومتمتعة بكفاءة عالية، من حيث البنية التحتية ومنهج الإتقان والالتزام؟
2- ما تاريخ الحوادث التى وقعت فى المفاعلات النووية باختلاف درجات هذه الحوادث، بما فى ذلك التى وقعت حديثاً؟ علما بأنه لا يوجد أمان مائة فى المائة، ناهيك عن خرافة الأكثر من مائة فى المائة. أما هدف الهيئات المنظمة للمفاعلات النووية فى الغرب فهو تحقيق تأكيدات معقولة بالأمان.
3- هل هناك فارق أساسى فى طبيعة حوادث المفاعلات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، مما يميزها عن حوادث أخرى؟ هل ندرة الكوارث النووية هى المقياس الوحيد لتحديد الأمان أم أن ذلك لابد أن يشمل مدى التأثير على البشر والبيئة والمدى الزمنى لتبعات الكوارث؟
4- هل الخيار النووى حتمى أم أن هناك بدائل طاقة أفضل؟ ما مستقبل الغاز الطبيعى المكتشف حديثا؟ كيف نستخدم الطاقة المتاحة الآن؟ ماذا عن ترشيد الاستهلاك فى ظل استخدامات أوسع لوسائل الإضاءة الحديثة واستخدام واسع للتسخين الشمسى المباشر عبر تكنولوجيا بسيطة ومتاحة من سخانات المياه فوق أسطح المنازل؟
5- ما أولويات التنمية ومتطلبات الطاقة الضرورية لتحقيقها؟
6- ما التكاليف الحقيقية لبناء المفاعلات؟ أهذه التكاليف يجب أن تشمل تقديرات لتكاليف القروض ورفع مستوى البنية التحتية وتكاليف التخلص أو تخزين الوقود المستهلك وتكاليف إجراءات الأمن والأمان وخطط تفريغ السكان فى حالة الحوادث وتكاليف احتواء المفاعل بعد انتهاء عمره الافتراضى؟ ما تفاصيل العقد الروسى اقتصاديا مثل خدمة الدَّيْن والمكونات التى تساهم مصر بها فى الإنشاءات؟
7- هل تغلق مفاعلات لأسباب اقتصادية وتنافس الغاز الطبيعى كبديل؟
8- ما خطط ومتطلبات تفريغ المواطنين المصريين فى محيط 50 كم على الأقل فى حالة حوادث كبرى؟
9- ما الأعباء العسكرية الإضافية ومتطلبات الأمن القومى التى يفرضها إنشاء مفاعلات نووية، خصوصا فى ظل اتساع تهديد الإرهاب؟
10- ما وضع البنية التحتية ومدى رسوخ تقاليد الدقة والالتزام حاليا وخطط الارتفاع بمستوياتها؟
11- هل أُلغيت عقود موقعة قبل ذلك، بل هل تم إنشاء مفاعل نووى ولم يتم تشغيله بسبب المعارضة الشعبية الواسعة؟ هل التعاون التكنولوجى المصرى الروسى الذى نحبذه حكر على المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة بطريقة مقنعة لغالبية الشعب ضرورية قبل المضى فى تنفيذ إنشاء المفاعل وتشغيله، إن المشاركة فى القرار تقلل من الأخطاء وتجعل المسؤولية متقاسمة. أما الانفراد بالقرار وعدم الإنصات للتحذيرات الموضوعية فيجعل المسؤولية حكرا على المسؤولين وأيضا على الإعلاميين الذين شاركوا فى حملات الدعاية غير الموضوعية.
* أستاذ الكيمياء الطبيعية بجامعتى الإسكندرية وولاية ميتشجان بالولايات المتحدة الأمريكية (سابقاً)